فلنتفوّق على تنظيم العدُوّْ! إقبال أحمد وتحرير فلسطين

لم يكن المفكّر الباكستاني الراحل، اقبال أحمد، معارضا للكفاح المسلّح، بل بالعكس، كان يرى أنّ هناك ظروفًا تُحتّمه كما هو الحال في فلسطين المحتلة ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني. ولكنه رأى ان المُهمّ أن يندرج هذا الفعل ضمن إطار أوسع من السياسات الثورية، فلا يكون عشوائيًا في اختيار ضحاياه ويهدف إلى توسيع نطاق الدعم السياسي بدلًا من تنفير الحلفاء المحتَملين. ويعتقد أنّ المقاومة الفعّالة تتطلّب منهجا مرِنًا يمزج بين تكتيكات عسكرية وسياسية متنوّعة، حسَب موقع الخصم والسياق السياسي الأوسع، منتقدا النظر إلى العنف واللاعنف كاستراتيجيات مُطلقة ومتضادّة في حدّ ذاتها. بهذا المعنى، فإنّ تحليل إقبال أحمد للعنف السياسي له أسس مختلفة عن الأسس الأخلاقية المحْضة التي انبنَت عليها بعض الإدانات اليساريّة الأخيرة لعنف حركة حماس.

Authors

Longread by

Eqbal Ahmad

 قُدِّر لمُنظمّة التحرير الفلسطينية أن تفشل كحركة تحرّر. كانت هذه رسالة إقبال أحمد القاسية التي عرضها في ديسمبر/كانون الأول 1969 أمام ذهول الحضور، المتكوّن من 300 ناشط عربي أمريكي. كانوا قد اجتمعوا بمناسبة المؤتمر السنوي لرابطة الخرّيجين الجامعيين الأمريكيين العرب في ديترويت، وهو أوّل تجمّع جدّي في الولايات المتحدّة الأمريكية لمناقشة حركة التحرّر الفلسطينية. قبل سنتين من المؤتمر، احتلّ الجيش الإسرائيلي قطاع غزّة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية، بما يشمل القدس الشرقية، بعدما انتصر على جيوش مصر والأردن وسوريا. كان العرب في الولايات المتحدّة الأمريكية في حالة من الأسى والعزلة وهم يشاهدون الدعم الأمريكي النشوان لإسرائيل، كما أصبحوا واعين بعمق بالعنصرية (ضدّ العرب) المرافقة لهذا الدعم، بما في ذلك الاعتداءات بالعنف. تكوّنت رابطة الخريجين العرب في هذه اللحظة التاريخية من اليأس، وكان هدفها تأسيس حركة عربية-أمريكية قادرة على دعم القضية الفلسطينية في مواجهة الرأي العام الأمريكي.1

مع حلول عام المؤتمر، أي 1969، تحوّل اليأس إلى أملٍ. إذْ بدا بصيصٌ من النور يظهر. من باب المفارقة أن هزيمة الجيوش العربيّة عام 1967 أتاحت الفرصة للمجموعات المسلّحة الفلسطينية، مثل حركة فتح، أن تبرُز وتحتلّ الصدارة. باتَت منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت عمليًا تابعة لوزارة الخارجيّة المصريّة، تحت تأثير هذه المجموعات، وصار الفتحاوي ياسر عرفات قائدها. هناك أملٌ جديدٌ إذن: يمكن لحرب العصابات تحرير فلسطين، مثلما حرّرت جبهة التحرير الوطني (ج.ت.و) الجزائر من الاحتلال الفرنسي ومثلما فعل الفيتناميون: أوّلا طردوا المحتل الفرنسي ثمّ تغلّبوا على آلة الحرب الأمريكيّة. كغالبية العرب، تبنّى ممثلو حركة الخريجين العرب هذه الرؤية. ارتفع سقف توقعاتهم في مارس/آذار من عام 1968 حين نجح مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية في صدّ  قوّة مُدجّجة بالسلاح والآليات قوامها 15 ألف جندي إسرائيلي في قرية أردنية صغيرة اسمها الكرامة. "لم يعد الفلسطيني لاجئا برقم كذا وكذا"، هكذا صرّح ياسر عرفات بعد المعركة، "بل هو فردٌ من شعبٍ يمسك بزمام مصيره ويستطيع أن يقرّر مستقبله".2

تبنّى إقبال أحمد رؤية مختلفة؛ إذ اعتبر أن المواجهة العسكرية مع إسرائيل وحدها لن تحقق العدالة للفلسطينيين. لقد كان العنف الثوري ضروريا في بعض الأحيان، لكنّ أغلب حركات التحرّر الوطني لم تتبنّ نظرية الكفاح المُسلَّح كما لو كانت هي استراتيجيتهم بالجملة، بل رأوا فيها أداة تُمكّنهم من الدفع بقضيّتهم وجزءًا من مواجهة أوسع ضد بُنى الحكم الاستعماري. قال إقبال أحمد بأنّ التركيز ينبغي أن يكون على الجوانب السياسية للنضال، وبذل الجهود لـ "تسليط الضوء وكشف التناقضات الأساسية لإسرائيل أمام الإسرائيليين أنفسهم وأمام العالم". لقد أيّد إقبال فكرة أنْ "يكْمُن الفلسطينيّون للعدوّ سياسيا وإداريًّا ودبلوماسيا، وليس عسكريا فحسب…". يسعى كل نضال ثوري إلى عزل الطرف المهيمن عزلاً أخلاقيا - ليس فقط أمام أعين شعبك، بل في أعين جمهوره والعالم برمّته أيضا". ومثلما كتب لاحقا: "صدَم خطاب حركة الخريجين العرب الحضور بتحذيرات رهيبة"، "فحركة فتح والفصائل الفلسطينية المسلّحة الأخرى كانت راديكالية لكنها مخطئة". يتذكر الأكاديمي والناشط إبراهيم أبو لغد، وهو أحد منظمي الحدث، بأنّه كان خطابا "مُصمَّمًا بشكل جميل"، ممّا جعل إقبال المتحدث العام الأكثر أهمية للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة، وخاصة بين جيل الشباب.3

كان من ضمن الحضور في ذلك اليوم فايز صايغ، الدبلوماسي والمثقّف العربي ومؤسس مركز الأبحاث الفلسطيني ببيروت، الشخصية التي تستضيفها وسائل الإعلام الأمريكية في المناسبات النادرة حين تشعر بالحاجة لإلقاء رأيٍ مؤيد لفلسطين في بحرِ هيمنة الآراء المؤيّدة لإسرائيل. وقد رَدّ على خطاب إقبال أحمد مُدافعًا عن الاستراتيجية العسكرية قائلا: "الكرامة، غيّرت صورتنا من العربي الفارّ إلى العربي المقاتل. لا يوجد طريق آخر". لقد آمن فايز صايغ بوجود مجريان اثنانِ لتأكيد الذات الفلسطينية: العسكري والدبلوماسي. ستفرض الانتصارات الفلسطينية العسكرية بالنهاية تسوية يتمّ التفاوض بشأنها مع دبلوماسيّ القوى الكبرى؛ كان كسب دعم جماهيري أكبر للفلسطينيين، على الأكثر، اعتبارا هامشيا. 

عكست الرؤية الطاغية ضمن القيادة الفلسطينية طيلة عقود متتالية حُجّة صايغ. لاحقا، خلال التسعينيّات، حين قبلت حركة فتح دور المتعاون مع العدوّ وأدارت الأراضي المُحتلّة نيابة عن إسرائيل، التقطت حركة حماس استراتيجية الكفاح المسلّح التي تخلّت عنها منظّمة التحرير الفلسطينية. كما استخدمت حركة المقاومة الفلسطينية بشكل متزايد الأدوات التي أوصى بها إقبال أحمد منذ فترة طويلة. إذ انطلقت حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) ("حركة مقاطعة إسرائيل" اختصارا) عام 2005 بهدف فرض عزلة أخلاقية على إسرائيل. وتبلورت هيكلَة أكثر تطورًا للحملات الأيديولوجية، مُشْرِكَةً الرأي العام العالمي بقوّة. قبل فترة قريبة، كان هناك أيضا مسيرة العودة، التي مثّلت أحد أشكال المقاومة الشعبية . بَيْد أنّه لم يكن أيٌّ من ذلك كافيًا لكبح جماح العنف الاستعماري الإسرائيلي المستمرّ بلا هوادة. 

ترتكب إسرائيل اليوم جرائم القتل الجماعي لشعبٍ مُحاصرٍ باستعمال أسلحة ذات تكنولوجيا فائقة التطوّر، وها هي تُدمّر عن قصد كلّ شبرٍ من بُنيَتِه التحتيّة المدنية وتدفع الناس إلى مناطق مُكتظّة حيث يقصفونهم عمَدًا بعد أن منعوا عنهم الغذاء والماء والعناية الطبّية والكهرباء.  تُوفّر الولايات المتحدّة الأمريكية دعما عسكريا، وماليا، ودبلوماسيا صريحًا لإسرائيل مع تعبيرات سطحيّة وبائخة عن القلق. ومع هذا، بات من الجليّ أنّ إسرائيل تخسر معركتها الإيديولوجية في الغرب نتيجة للتعبئة السياسية الفلسطينية الأوسع نطاقا. يبشّرنا هذا باحتمالات جديدة للتحرّر الفلسطيني بما قد يُثبت صحّة رؤية إقبال أحمد.

لاجئ التقسيم

وُلِدَ إقبال أحمد لعائلة مسلمة من كبار ملّاك الأرض في بيهار بالهند، المستعمَرة البريطانية آنذاك، عام 1933 أو 1934. وكان عُمره ثلاث أو أربع سنوات حين أفاق ذات ليلة على مشهد قتل والده بهجوم بالسواطير. لقد كان درسا صادما ومبكّرا حول أسباب العنف السياسي: إذ أمر ملّاك آخرون بقتل والده كعقاب له على خيانته لطبقته وتبنّيه قضايا المزارعين. بعد مرور عقدِ من الزمان على تلك الحادثة، أُرغِم إقبال على مغادرة موطن أجداده بسبب التقسيم البريطاني للهند وباكستان على أسُس دينية عامّة. خرج إقبال في رحلة طويلة إلى باكستان سيراً على الأقدام على طول طريق "الجذع الكبير" بالهند، وشهد أهوال العنف الطائفي بين الهندوس والسيخ والمسلمين، مضطرًا إلى استخدام سلاح ناري لصدّ الاعتداءات. أخيرا استقرّ في لاهور، وترك مقاعد الجامعة لقضاء أربعة أشهر كمقاتل متطوّع بوِحدةٍ للحزب الشيوعي في كشمير. ثم إنه غادرها بعد إصابته بعيار ناري، ومن بعد إصابته أنهى دراسته للاقتصاد والتاريخ في جامعة فورمان المسيحيّة في لاهور.5 
 

في عام 1957، مع بلوغ إقبال منتصف العشرينات، كان قد مرّ بثلاث تجارب مختلفة من العنف السياسي. غادر في السنة اللاحقة إلى الولايات المتحدّة الأمريكية بمنحة دراسية لمواصلة تعليمه العالي في العلوم السياسية بجامعة برينستون، ثم انتقل بعدها بخمس سنوات إلى تونس لدراسة الحركة النقابية فيها، حيث صادقَ بعض قيادات حركة التحرر الوطني للجارة الجزائر. كان الثائر المارتينيكي فرانز فانون أحدهم، إذْ كان حينها يرأس مكتب الإعلام لجبهة التحرير الوطني الجزائرية بتونس، كما كان محرِّرًا لجريدتها السريّة: المجاهد. عمل فرانز فانون عن كَثَب مع إقبال أحمد في آخر ستة أشهر من حياته القصيرة.6 

بدأ إقبال مسيرته الأكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الستينيّات. وكان من الأساتذة القلائل الذين عارضوا علانية الحرب الأمريكية على فيتنام. أمّا انتقاد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فكان أقلّ شيوعًا، لينضمّ إلى القلّة القليلة التي تجرأت على القيام بذلك علنًا، ومن ضمنهم فايز صايغ وإبراهيم أبو لغد. وقد تأثرت فرصه في المناصب الأكاديمية سلبًا نتيجة لذلك. ومع تصاعد الحركة المعادية للحرب على الفيتنام، كان إقبال أحمد من ضمن مجموعة ساعدت في إخفاء القسّ اليسوعي المعادي للحرب دانيال بيريجيان، والذي كان على قائمة أهم المطلوبين لمكتب التحقيقات الفيدرالي إثر اتهامه بتدمير سجلّات التجنيد العسكري. في عام 1971 لفّق مكتب التحقيقات الفيدرالي لائحة اتهام لإقبال وستة ناشطي سلام آخرين، جميعهم قساوسة أو راهبات،  تضمّنت التآمر من أجل اختطاف مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر وتفجير مبانٍ حكومية. لم تقتنع هيئة المحلَّفين وتمّت تبرئة ما عُرفَ بـ"سبعة هاريسبرغ" من التهم الرئيسية.7

منحَت المحاكمة إقبال صيتًا واسعًا في الولايات المتحدّة الأمريكية، وظلّ، إلى حين تقاعده من جامعة هامبشير عام 1997، أحد أنبغ المُعلّقين على مواضيع الإمبريالية والقوميّة والاستبداد، وأحداث التمرّد والاضطرابات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. ويجدُر الذكر أنّ إقبال هو أوّل رئيس للمعهد العابر للقوميات بأمستردام من 1973 إلى 1975. توفيّ إقبال عام 1999 في باكستان، إلّا أن تأثيره ظلّ حيًّا ومنتقلًا عبر القصص التي رواها في صالوناته المسائيّة الشهيرة، وكذلك من خلال كتاباته ومقابلاته المنشورة. 

Seven of Harrisburg 1972

AP Wirephoto, Public domain, via Wikimedia Commons

"سبعة من المتهمين في مؤامرة هاريسبرج 8 للقنابل / الاختطاف يقفون في الخارج خلال تجمع حاشد في هاريسبرج في 23 يناير 1972

استعمار استيطاني في القرن العشرين

وإن اختلف إقبال أحمد وفايز صايغ حول استراتيجيات المقاومة، إلّا أنّهما اتفقا على أنّ الصهيونية هي شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني. جادل فايز صايغ في كتابه المرجعي الاستعمار الصهيوني في فلسطين، الذي نُشر عام 1965، بأنّ الحركة الصهيونية هدفت أوّلا إلى تأسيس "مجتمع استيطاني" ثمّ "دولة استيطانية في فلسطين"، في تقليدٍ للمغامرات الأوروبيّة الاستعماريّة خلال القرون الماضية. إذ قيل أنّه "طالما نجحت البلدان الأوروبيّة الأخرى في التوسع في آسيا وإفريقيا، وألحقت بنطاقها الإمبريالي أجزاء واسعة من هاتين القارتين، فإنّ "الأمّة اليهودية" تستحقّ وتستطيع بدورها القيام بذلك لنفسها". لم يُقصّر القادة الصهاينة في الإدلاء بالتصريحات التي تدعم هذا التأويل. 

كتب مهندس الصهيونية الحديثة ثيودور هيرتزل عام 1896 أنّ دولة يهودية في فلسطين ستكون بمثابة "جزء من متراس أوروبا ضدّ آسيا، مخفرٌ متقدّمٌ للحضارة في مواجهة الهمجيّة". تكرّر نفس الموقف الاستعماري في 1947، حين صرّح حاييم وايزمان، والذي سيصبح لاحقا أوّل رئيس لإسرائيل، أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين:

"هناك آخرون احتلّوا بلادا عظيمة وغنيّة. وجدوا حين دخلوها شعوبا متخلّفة، وفعلوا بهذه الشعوب ما فعلوا. لستُ مؤرّخا ولست هنا للحكم على النشاط الاستعماري لعديد البلدان العظمى التي احتلت مناطق متخلّفة، لكنني أريد القول بأنّ تأثيرنا على العرب، مقارنة بالنتائج التي خلّفتها الأنشطة الاستعماريّة لغيرنا من الشعوب، لم يُسفر عن نتائج أسوأ بكثير ممّا أحدَثه هؤلاء".

اليوم، يتواصل وسم إسرائيل ببؤرة الحضارة الغربية. فعلى سبيل المثال صرّح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرزوغ في ديسمبر/كانون الأول 2023 بأنّ "الحرب على غزة هي في الحقيقة حرب لإنقاذ الحضارة الغربية وقيم الحضارة الغربيّة" وأنه لولا إسرائيل "ستكون أوروبا هي التالية".8

رأى فايز صايغ التجانس بين الصهيونية والاستعمار الأوروبي لآسيا وأفريقيا في القرن التاسع عشر، إلّا أنّه أشار إلى اختلافات مهمّة بينهما. بالنسبة للصهيونية فإن "الاستعمار هو أداة لبناء الدولة وليس ناتجا ثانويا لقوميّة متحقّقة بالفعل." علاوة على أنّ الصهيونية "حالة شاذّة"، فهي استعمار أُطْلِقَ في عصر تصفية الاستعمار، ممّا اضطرّها إلى مواجهة مشكلة أنّ الفلسطينيين قد بلوروا بدورهم تطلّعات قوميّة. ممّا يفسّر الحماسة الصهيونية الشديدة "للطرد الفعليّ للسكان الأصليين". لا يسعى المستعمرون الصهاينة في نهاية المطاف إلى إنشاء دولة كجنوب إفريقيا في الشرق الأوسط، حيث يجري إخضاع الفلسطينيين كقوّة عمل مفصولة عنصريًا ومُستغَلَّة بشكل كبير، بل يسعون إلى القضاء التامّ على الفلسطينيين. حين تجد إسرائيل نفسها غير قادرة على تحقيق هذا الهدف تتّخذ شكل دولة فصل وتمييز عنصري. في كلتا الحالتين فإن "العنصرية هي لُبُّ الصهيونية". بعد مرور أكثر من خمسين سنة على نشر صايغ لكتاب الاستعمار الصهيوني لفلسطين، أقرّت مُنظّمتي هيومن رايتس واتش والعفو الدوليّة أنّ إسرائيل تُدير نظام تمييز عنصري. لكن غاب عن رواياتهما تفسير لماذا تتضمّن الصهيونية نزعة الإقصاء العنصري. دون مناقشة ديناميكيات الاحتلال الاستيطاني، التي لخّصها صايغ، بدَت سياسات إسرائيل التمييزية كما لو كانت نتيجة قرارات فردية لسياسيين عنصريين وليست تمظهراتٍ لمسار بُنيويّ أعمق.9

حين تقرأ اليوم تحليل إقبال أحمد الأكثر تفصيلا حول الصهيونية: " "الريادة"في العصر النووي: مقالة عن إسرائيل والفلسطينيين"، والتي نشرت عام 1984 في الدورية الأكاديمية "رايس آند كلاس" (العرق والطبقة)، ستجدها مقالة تفيض برؤى تبدو مُعاصرة. فالمنطق الكامن وراء الاحتلال الصهيوني لم يتغيّر طوال نصف قرن من الزمن، وبالتالي يظلّ تحليل إقبال أحمد ملائما. وعلى غرار صايغ، يعتقد أحمد أنه على الرغم من وجود أوجه تشابه مع نظام الميْز العنصري في جنوب أفريقيا، إلا أنّ الصهيونية مختلفة "بُنيوَيًا وجوهريًا".

 ولقد حاجج بأنّ المقارنة الأكثر دقّة هي مع الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الأمريكيّتيْن. فمع كليهْما، كانت هناك" أساطير الأرض الخالية، والمستنقعات المستصلحة والصحاري المزدهرة... وعُقد مسيحية عن الأقدار المتجليّة والأراضي الموعودة... وتشوّه بارانويِي في الثقافة المُستعمِرَة، وموقف أداتي تجاه العنف والميل إلى التوسّع". وأشار إلى أن المستعمرات الاستيطانية من هذا النوع تنحو إلى تحقيق ثلاثة أهداف: مستوى معيّن من الاستقلال عن الدول الغربية الراعية لها؛ تطبيع علاقاتها مع البلدان المجاورة؛ وحلّ ما تعتبره "مشكلة السكان الأصليين"، من خلال القضاء عليهم أو طردهم أو احتوائهم.10 

يمكن للولايات المتحدّة الأمريكية الزعم بأنّها حققت هذه الأهداف في القرن التاسع عشر، وإن لم تتوقف مقاومة السّكان الأصليين أبدا. خلال عقد الثمانينيّات، كانت إسرائيل تلاحق هذه الأهداف ولم تزَل إلى اليوم. لطالما كان سعيُ اسرائيل للاستقلال عن راعيها، أيْ الولايات المتحدّة الأمريكية، أمرًا مُتشعّبًا. فمن جهة، ارتأت أن تزرع أجندتها بشكل وثيق وسط النخب الأمريكية الحاكمة حتى تُضعف احتمال أن تضع هذه النخب قيودا على الاستعمار الإسرائيلي؛ ومن جهة ثانية، قلّلت إسرائيل بثبات اعتمادها العسكري والمالي على الولايات المتحدّة الأمريكية. إذ أنّ نسبة الدعم الأمريكي المالي من إجمالي الناتج القومي لإسرائيل هو اليوم أقلّ بكثير ممّا كان عليه قبل أربعين سنة. مثّلت المساعدات الأمريكية ما يقارب 10% من الاقتصاد الإسرائيلي عام 1981؛ أمّا في عام 2020 فإنّ الـ 4 مليار دولار التي توفّرها الولايات المتحدّة، ورغم أنّها أعلى من حيث القيمة المطلقة، تقارب 1% فحسب من هذا الاقتصاد. لا تعتمد صناعة الأسلحة في إسرائيل كلّياً على استيراد الأسلحة الأمريكية الصنع، لكنها ما تزال بحاجة إلى الحماية العسكرية والدبلوماسية الأمريكية؛ إذْ تعتمد على الولايات المتحدة لصدّ هجومات القوّات الأخرى في المنطقة التي تساند الفلسطينيين عسكريًا، كما يتّضح من القصف الذي قادته الولايات المتحدة هذا العام على جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن - واستخدامها لمقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، حيث دأبت على استعمال حق النقض (الفيتو) ضد القرارات التي تهدف إلى كبح جماح العنف الإسرائيلي. إذا كان التطبيع مع إسرائيل في متناول اليد، فذلك لأن الولايات المتحدة وضعت ثقلها وراء اتفاقات أبراهام التي أضفت الطابع الرسمي على اعتراف الدول العربية بالسيادة الإسرائيلية.11 

تجد إسرائيل الصعوبة الأكبر مع الهدف الثالث للاحتلال الاستيطاني: حلّ مشكلة "السكان الأصليين". على مرِّ تاريخها، استخدمت إسرائيل طُرقا مختلفة لطرد الفلسطينيين: إخراجهم المتواصل من منازلهم عبر القوانين واللوائح التمييزية، والترهيب والعنف لدفعهم للمغادرة، والتطهير العرقي تحت غطاء الحروب مثلما حصل أعوام 1948 و1956و1967 وما يحصل الآن في الضفة الغربية وغزّة. إن الجغرافيا اللاإنسانية لقطاع غزة - حيث يُسجن ويُحاصر 2.3 مليون فلسطيني أغلبهم لاجئين يُجوّعون عن قصد ويُحْرَمون من الماء النظيف ومُعرّضون دوريًّا للقصف هي في حدّ ذاتها نتيجة لمسار التهجير القسري من مناطق فلسطينية أخرى. يبدو أنّ القادة الإسرائيليين يعتقدون الآن بأنّ هناك فرصًا للتوسع الاستيطاني في هذه المساحة الضيقة من الأرض وإحدى أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، إذا أمكن لهم حشَر الغزّاويين الناجين من حرب الإبادة في جنوب القطاع أو حتى تهجيرهم إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. تُنفّذ السياسة الحالية المُتّبَعة في غزة بقيادة الشخصيات الأكثر تطرّفا في تاريخ إسرائيل، إلّا أنّ هذا العنف لا ينبع من حزب مُعيّن، بل هو من المرتكزات الأساسية للصهيونية. الهدف كان دائما سحق الشعب الفلسطيني وتفتيته إلى ألف شظيّة، بحيث يقع تركيزه واحتواؤه  في بُقع أضيق من أي وقت مضى من أرضه، في حين تتوسّع باطّراد المستوطنات اليهودية المُدجّجة بالسلاح والمتمتِّعة بشتّى الموارد. ورغم الممارسة المستمرّة للإرهاب الإسرائيلي، مازال هناك أكثر من 7 مليون فلسطيني يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط، مع 6 ملايين آخرين يعيشون في الدول المجاورة، الكثير منهم في مخيمات اللاجئين ومُعْظمهم عازمون على العودة إلى وطنهم. لن تنجح إسرائيل على الأرجح في هدفها الحالي: تفكيك حماس، ولكن حتى إن نجحت فسوف يتواصل الكفاح الفلسطيني في سبيل التحرّر الوطني.12

طبعا إسرائيل نفسها أنشأها لاجئون، لكن عِوض أن يُنظر لهذا كعامل جعل من إسرائيل استثناءً كمُستعمرة، يُشير إقبال أحمد إلى أنّها ليست استثناءً في تاريخ الاستعمار الاستيطاني. تتشابه الصهيونية مع المستعمرات الأوروبيّة في أمريكا الشمالية، لجهة توفيرها ملجأً للأقليات الدينية المُضطهَدة في أوروبا، وميْلُ دُعاتها إلى تبنّي خطاب الحقوق الليبرالية رغم سعيها الحثيث إلى" إقصاء السكان الأصليين والقضاء عليهم". لاحقًا، جلب القادة الأوروبيّون لإسرائيل يهودًا من الشرق الأوسط، كجزء من مجهودهم لتعويض الفلسطينيين ديمغرافيًا - مُزينين سُمعة إسرائيل كملجأ، رغم أنّ هؤلاء المواطنين الجدد كانوا في موقع اجتماعي دونيّ. تكمن استثنائية الصهيونية في أنها دولة استعمارية استيطانية تشكلّت عام 1948، أي في مرحلة تاريخية متأخّرة، مما اضطرّها إلى بلورة أساليب استعمارية أكثر تطورًا. كتب إقبال أحمد أنّ "المصير الفريد" للفلسطينيين يتّسم بمواجهتهم "ظاهرة لافتة للنظر - حركة استعمارية استيطانية في القرن العشرين، حركة أفضل تنظيمًا بلا منازع وأكثر استماتة وانضباطًا وتشعُّبًا، وإن كانت أضعف بطبيعتها، من سابقاته" . يمكن رؤية هذه القدرة على التنظيم الجيّد بالغ الانضباط، على سبيل المثال، في الطريقة التي طوّرت بها إسرائيل نفسها لتصبح واحدة من أكبر مُصدِّري الأسلحة في العالم. فمن خلال تصدير الأسلحة أو التدريب على مكافحة التمرد لحساب الأنظمة الاستبدادية اليمينية المتحالفة مع الولايات المتحدة، في جنوب أفريقيا والأرجنتين وشيلي وغواتيمالا وهندوراس، عندما كانت الولايات المتحدة غير قادرة على التصرف بنفسها بسبب المخاوف المحليّة أو الدبلوماسية، خلقت إسرائيل "روابط جديدة وعضوية" مع الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة. كتب إقبال أحمد: "لا يمكن التقليل من أهمّية هذا التطوّر" .13

على نفس القدر من الأهميّة، جاءت الطرق المُعقّدة التي اعتمدتها إسرائيل لإدارة التحديّات الديموغرافيّة المُلازمة لأي دولة استيطانيّة. إذْ اعتمد اقتصادها الرأسمالي بشكل متصاعد على اليد العاملة الفلسطينية، وقد توقع القادة الإسرائيليون الخطر الداهم الذي مثّله هذا المشروع على المدى البعيد. لقد راقبوا كيف شكّل الاعتماد البنيوي لجنوب أفريقيا في الثمانينيات على اليد العاملة السوداء هشاشة خطِرة، لما يتيحه ذلك لحركة مناهضة الفصل العنصري من فرص استعمال الإضرابات العماليّة لإضعاف المنظومة. تجنّبت إسرائيل مصيرًا مماثلًا عبر البحث المتواصل عن خَزّانات جديدة من العمَالة اليهودية (من الاتحاد السوفيتي السابق مثلا)، مُركّزة على الصناعات كثيفة رأس المال (مثل تصنيع أجهزة مُراقبة ومنتجات عسكرية عالية التقنية) وجلب يد عاملة مُهاجرة ومؤقتة من آسيا.14

Bill_Clinton,_Yitzhak_Rabin,_Yasser_Arafat_at_the_White_House_1993

Vince Musi / The White House, Public domain, via Wikimedia Commons

رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين (يسار)، الرئيس الأمريكي بيل كلينتون (وسط)، والزعيم السياسي الفلسطيني ياسر عرفات (يمين) في البيت الأبيض في عام 1993.

الطريق إلى أوسلو

بينما كان إقبال أحمد خلال الثمانينيّات يُبلور تحليله حول الصهيونية كاستعمار استيطاني، كانت الرؤية السائدة حينها تحوم حول التقسيم. إن فهم القضيّة بهذا الشكل يضيّق من نطاق الجرائم الصهيونية، لتقتصر على الاحتلالات العسكرية لعام 1967. والسؤال المطروح هو ما إذا كان من الممكن أن تقوم دولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، المجتزأتيْن من إسرائيل المُحدَّدة على الأقلّ "بالخطّ الأخضر" في هدنة 1949، والتي تُشكِّل حوالي 78% من مساحة فلسطين التاريخية. المقبول في هذا النهج هو تقسيم الصهيونية الفلسطينيين إلى ثلاث فئات: مواطنون من الدرجة الثانية في إسرائيل داخل الخطّ الأخضر، ورعايا خاضعين للاحتلال العسكريّ بالضفة وقطاع غزّة، واللاجئون في الدول المجاورة والأبعد منها، أمّا المعالجة المُقترحة لكل فئة فهي منفصلة ومختلفة عن بعضها البعض. بالمقابل، يتعامل منظور الاستعمار الاستيطاني مع الفلسطينيين ككتلة واحدة، واللحظة الحاسمة هي 1948 وليست 1967؛ في الواقع، تمّت كتابة النصّ الكلاسيكي لصايغ حول حُجّة الاستعمار الاستيطاني قبل عام 1967. بيْد أنّ منظمة التحرير الفلسطينية ابتعدت في منتصف السبعينيّات عن تحليل الاستعمار الاستيطاني، الذي صاغه فايز الصايغ ومثقفون آخرون كجورج جابور. وتبنّت المُنظّمة بدلًا عنه نموذج التقسيم، مُركِّزَةً الصراع حول الخطّ الذي يجب رسمه بين إسرائيل ودولة فلسطينية مستقبليّة. ونظراً لتجربته في سن المراهقة مع العنف الداخليّ المُهلِك أثناء تقسيم الهند وباكستان، كان أحمد كارهًا بالفِطرة للتقسيم كنتيجة للنضال ضدّ الاستعمار. إلّا أنّ اتفاقية أوسلو عام 1993 أضفَت الطابع الرسمي على التقسيم، فاُخْتزلت قضية فلسطين لدى مُعظم الناس في نزاعٍ على الأرض بين هُويّتين وطنيّتين يجب أن تتصالحا مع حلِّ الدولتين.15 

أشاح هذا الانتباه قليلاً عن إطار الاستعمار الاستيطاني لفترة من الزمن، ولكن بات جلّيًا منذ مطلع هذا القرن أنّ اتفاقيّة أوسلو لن تكون الأساس لدولة فلسطينية، بل طريقة للمحافظة على الاحتلال العسكري بينما يوسّع الصهاينة مستوطناتهم. الآن تجدَّد الاهتمام بالإطار، فما الشعبية الأخيرة لشعار "ستتحرّر فلسطين من البحر إلى النهر!"، المُطالب بتحرير كامل أرض فلسطين التاريخية، سوى إحدى التعبيرات عن هذا التجدّد. وقد وصل الأمر إلى درجة صدور سلسلة من المقالات في وسائل الإعلام الأمريكية تنتقد استعمال مصطلح "الاستعمار الاستيطاني" في وصف إسرائيل، وذلك باعتباره، في أفضل الأحوال، مُصطلحًا أكاديمية رائجًا، وفي أسوأ الأحوال، تعبير عن معَاداة ضمنية للسامية. في صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال، كتب بريت ستيفانز أنّ وصف إسرائيل بالمُستعمِر الاستيطاني أمرٌ "جائر، ومنافق وجاهل بالتاريخ"، وهي نظرية "مثيرة للاهتمام، ولكنها مُعِيبة بشكل فادح من الناحية الأكاديمية". تُجادل هذه المقالات بأنّ الحديث عن استعمار استيطانيّ يتضمّن الرغبة في العودة بعقارب الساعة إلى ما قبل نشأة إسرائيل عام 1948، وهو ما يُعادِله بالرغبة في طرد اليهود. إلّا أنّ إنهاء الاحتلال الاستيطاني في فلسطين التاريخية لا يتطلّب غياب اليهود، بل غياب التفوّق اليهودي. لا يحسم تحليل الاستعمار الاستيطاني بحدّ ذاته أيّ دولة أو دُولٍ ينبغي أن تنشَأ بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط؛ كل ما يتطلّبه هو أن يكون للفلسطينيين ولليهود نفس الحقوق على تلك الأرض. علاوة على هذا، لا صحّة لما تزعمه هذه المقالات من أنّ إطار الاستعمار الاستيطاني قد اختُرع مؤخرا على يد أساتذة أمريكيين يريدون الظهور كراديكاليين مع البقاء بمعزل عن العواقب العمليّة الخطيرة المُترتّبة عن موقفهم. لم ينشأ هذا الإطار التحليلي في الواقع في الأوساط الأكاديمية الأمريكية بل هو نتاج عقود عديدة من التفكير الاستراتيجي داخل حركة المقاومة الفلسطينية.16

العزل الأخلاقي للخصم

"بعد ما رأيته في الجزائر، لم أعد قادرًا على رَمَنْطَقَةِ النضال المسلّح"، هكذا صرّح إقبال أحمد لمحاوره مُرْدِفًا: فعلاوة على حصيلة الضحايا المدنيين الجزائريين المرتفعة جدًا، في الحقيقة "خسر الجزائريون الحرب عسكريًا". لم تنل الجزائر الحريّة من الاستعمار الفرنسي من الحملة العسكرية نفسها، ولكن من التحركات والتعبئة السياسية التي أفضت إلى اعتراف متزايد حول العالم بأنّ فرنسا مخطئة في محاولتها التّمسك بالأرض. "لقد نجحوا في عزل فرنسا أخلاقيًا. وبالتالي، فإنّ مُهمّة النضال الثوري الأولى هي تحقيق العزلة الأخلاقية للخصم، بنَظره وبنظَر العالم". ثم يُواصل إقبال أحمد تفسير فكرته: يُمكن لحملات العنف أن تكون مُدمِّرة، ليس فقط للمستعمِر المضطَهِد، ولكن كذلك للمُضْطَهَد نفسه، وليس بسبب الانتقام الهائل الذي يقدِر عليه المُستعمِر فحسب، بل أيضا بسبب إمكانية أن يقع لاحقًا توجيه العُنف، الذي وقع تسخيره في البداية ضدّ الاستعمار، ضدّ أقسام من الشعب المحتَلّ، خاصّة حين ينصهر عنف النضال السياسي مع مفهوم ضيّق للهوية.17  

في نفس الوقت، يرى أحمد أنّ هناك ظروفًا تُحتّم الكفاح المسلّح. المُهمّ أن يندرج هذا الفعل ضمن إطار أوسع من السياسات الثورية، بحيث لا يكون عشوائيًا في اختيار ضحاياه وأن يهدف إلى توسيع نطاق الدعم السياسي بدلًا من تنفير الحلفاء المحتَملين.  وأشار إلى أنّ الحركات التي تؤسس نضالها في منطقة معيّنة وتسعى إلى التعبئة الثورية لسكّانها تميل إلى أن تكون "انتقائية اجتماعياً ونفسياً" في استخدامها للعنف. فهي تستهدف"رموز الاضطهاد المعروفة على نطاق واسع - مُلاّك الأراضي والمسؤولين الجشعين والجيوش القمعية"، وتسعى إلى "توسيع الدعم الشعبي للثوار من خلال تحرير مناصريها المُحتمَلين من قيود السلطة القمعية". كما يعتقد أنّ المقاومة الفعّالة تتطلّب منهجا مرِنًا يمزج بين تكتيكات عسكرية وسياسية متنوّعة، حسَب موقع الخصم والسياق السياسي الأوسع، بدل النظر إلى العنف واللاعنف كاستراتيجيات مُطلقة ومتضادّة في حدّ ذاتها. بهذا المعنى، فإنّ تحليل إقبال أحمد للعنف السياسي له أسس مختلفة عن الأسس الأخلاقية المحْضة التي انبنَت عليها الإدانات اليساريّة الأخيرة لعنف حركة حماس.18

من بين الأمثلة التي يذكرها إقبال أحمد مثال الاستخدام الفعّال للعنف الثوري في الثورتين الصينية والكوبية، والكفاح المُسلَّح للمؤتمر الوطني الأفريقي ضدّ الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر الذي حرّر البلاد من الاستعمار البرتغالي. في هذه الحالات، بحسب إقبال أحمد، يُشجِّع التجذّر في الأيديولوجيا الثورية على العمق الاستراتيجي والإقرار بأنّ الصراعات التحررية ليست مجرّد صدامات بين هُويّات متعارضة - المظلوم والظالم - بل تتجاوز في نهاية المطاف الهُويّات التي تُنتجها أنظمة القمع؛ وحول هذه النقطة، كثيرًا ما اقتبس أحمد مقولة إيميه سيزير: "هناك مكان للجميع في موعد النصر".19    

يمنع هذا المنهج كذلك محاولات ادّعاء "الانتصارات السهلة" في النضال المسلّح مثلما وصفها زعيم الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر أميلكار كابرال. كان إقبال قلقًا من أن "يصنع الضعفاء الذين لا يعرفون كيف يقاتلون، أساطير حول قوّتهم". يكمن الخطر في أن تستمِدّ الحركة "روحها المعنوية وشعورها بالزخم من الانتصارية المستمرة، ومن ادّعاء التقدّم حيث لا يوجد إلّا مقدارٌ مُحدَّد من الحركة، في خلطٍ بين المكاسب الصغيرة والانتصارات الكبيرة". يُشجّع الطغاة في الغالب هذا الإحساس المُبالغ فيه بالقوّة مُعلنين عن ذُعرهم من المقاومة. إلّا أنّ "القوي دائما ما يصف الضعيف بـ "شديد الخطورة" قبل أن يُدمِّرهُ".20

عمل نوبار هوفسبيان، وهو أرمني من مصر يعمل الآن أستاذًا مساعدًا للعلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة تشابمان في كاليفورنيا، عن كثب مع إقبال أحمد بشأن القضية الفلسطينية. وقد شغل أحيانًا دور ساعي البريد بين القادة الفلسطينيين في بيروت وأحمد في نيويورك. يتذكّر قائلاً: "كان إقبال يؤمن بأنّ الانضباط في التفاصيل هو ما يسمح بتجاوز تنظيم الخصم".  أن تكون أكثر تنظيما من الخصم يعني حسب كلمات إقبال أحمد عام 1983: "حشد التأييد الدولي والعزل الأخلاقي للعدو... لا تُخاطب الحكومات بقدر ما تُخاطب المجتمعات المدنية في معاقل الخصم، وفي هذه الحالة الجمهوريْن الإسرائيلي والأمريكي".  ليس الهدف من مخاطبة تلك المجتمعات المدنيّة إيجاد نقاط تسوية بل"فضح التناقضات الأساسية للمجتمع المعادي". تنظر إسرائيل إلى شرعيتها باعتبارها ملاذ شعب مضطَهد منذ زمن طويل، ولكنها تأسّست على حساب شعب آخر وما تزال تتوسع على حسابه. هناك طابع انفصام في الحياة السياسية والثقافية في إسرائيل يعرفه كلّ إسرائيلي في مستوى ما. يجب إبراز هذا التوتر إلى العلن [من خلال] ... التحريض السياسي الممَنهَج والمستمرّ".21

Eqbal Ahmad meeting with Yasser Arafat in September 1981

Courtesy of Julie Diamond and SAADA / https://www.saada.org/item/20170128-4933

(من اليسار إلى اليمين) فريد جاميسون، إقبال أحمد، ياسر عرفات، ودون لوس. سبتمبر 1981.

إقبال أحمد ومنظمة التحرير الفلسطينية

في السبعينيات والثمانينيات، كان أمل إقبال أحمد أن تتطور منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح"منظمة معقّدة ومنضبطة بما فيه الكفاية" للقيام بنوع المقاومة الذي كان يتصوره. ولتحقيق هذه الغاية، سافر بانتظام إلى الشرق الأوسط للقاء قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك ياسر عرفات، وطرح قضية توسيع استراتيجيتها إلى ما هو أبعد من الأساليب العسكرية والدبلوماسية. رافق إدوارد سعيد صديقه أحمد في كثير من الأحيان، وهو الباحث الشهير في جامعة كولومبيا، والعضو المُستقلّ في المجلس الوطني الفلسطيني، أي البرلمان الفلسطيني في المنفى، منذ عام 1977. في أحد الاجتماعات، دعا إقبال أحمد إلى تنظيم مسيرة حاشدة نحو إسرائيل من قِبل الفلسطينيين العُزّل، حاملين لافتات مكتوب عليها "نريد العودة إلى ديارنا". يتذكّر سعيد أن الفكرة قوبلت بـ"عدم تصديق وذعر خفيف". وفي اجتماع آخر في بيروت، أوصى إقبال أحمد منظمة التحرير الفلسطينية بإنشاء منظمة في الولايات المتحدة للضغط من أجل القضية الفلسطينية، على غرار لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك). عندما حضر مندوبو منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأمم المتحدة في نيويورك عام 1975، التقى بهم إقبال أحمد وجادلهم في ضرورة بدء حملة لكسب دعم المجتمع المدني الأمريكي، بما في ذلك العناصر اليهودية التي بدأت تشكّك في إسرائيل. وخلال الثمانينيات، واصل أحمد المحاججة بضرورة بناء منظمة التحرير الفلسطينية نشاطًا سياسيًا أقوى داخل الولايات المتحدة لإضعاف الدعم لإسرائيل. يتذكّر أحمد لاحقًا: "تحدّثت مع عرفات حول هذا الأمر بالتفصيل المُمِلّ ربّما خمس أو ست مرات،كان دائمًا ما يدوّن الملاحظات، كما يعِدُ دائما بفعل أشياء، ولكنه دائما لا يفعل".22 

 

يبدو أنّ عرفات كان مُستعّدا لقبول دور المدير لمعازل فلسطينيّة محاصرة لا تملك أيّة إمكانات معقولة لتتحوّل إلى دولة سياديّة، وهذا خطأ قاتل لم يؤدّ سوى إلى إطالة عمر الاحتلال. استنتج إدوار سعيد عام 1989 (وقد عبّر عن ذلك في الدوائر الخاصّة) بأنّ القيادة الفلسطينية "ليست في مستوى صلابة شعبها وحيويّة إصراره على المقاومة". بالنسبة إليه: "بنَت منظمة التحرير شبه دولة مُتْرفة قبل أن تنضج كحركة تحرّر". المزيج الناتج عن تمويل سخيّ من الدول العربيّة والبُعد عن الحياة اليوميّة للأراضي المُحتلّة وغياب استراتيجية سياسية واسعة، جعل قيادة منظمة التحرير عُرضة للاحتواء عن طريق مسار أوسلو خلال التسعينيّات. عندما انتقد إقبال أحمد وإداور سعيد علنًا اتفاقات أوسلو بوصفها معاهدة استسلام، بادر عرفات إلى تجميد عضويتهما في المنظمة.23

استغلت إسرائيل ظهور حماس في الثمانينيات، على أمل خلق ثقل موازن لحركة فتح،24 التي كانت تأمل أن تُمثّل ثقلا موازنًا لحركة فتح. لكن وبعد عقد من الزمان استطاعت حركة حماس ملأ الفراغ الذي تركه عرفات بدخوله مسار أوسلو. كُلّما زاد ظهور قيادات فتح كمتواطئين مع الاحتلال وفاسدين في إدارتهم للتمويلات الخارجية، التي أَسندت السلطة الفلسطينية صنيعة معاهدة أوسلو؛ زادت شعبيّة حماس بين الفلسطينيين. وعلى إثر حملة التفجيرات الانتحارية التي قامت بها حركة حماس خلال الانتفاضة الثانية عام 2000، وصف صانعو القرار الغربيين وخبراء الإرهاب المزعومين حماس بأنها من تمظهرات "الإسلام الراديكالي" وربطوها بتنظيم القاعدة. أما حجتهم فهي كالآتي: على عكس تشكيلات حركات التحرّر الوطني السابقة، مثل حركة فتح، أو جبهة التحرير الوطني في الجزائر، أو الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت في أيرلندا الشمالية، التي وصفت بأثر رجعي بأنها علمانية، فإنّ حماس متعصبة وغير متحفظة في عنفها لأنّ دافعها كان أَخروي، وتحمل كراهية معادية للسامية متأصّلة في التطرّف الديني. وقد شجّع على هذا الرأي بالتأكيد الميثاق التأسيسي المعادي للسامية الذي أصدرته الحركة عام 1988، والذي دعا إلى إقامة دولة إسلامية على كامل أرض فلسطين التاريخية. غير أنّ الفهم الأكثر منطقية لحماس منذ ذلك الحين هو أنها تبنّت استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية السابقة المتمثلة في محاولة إضعاف الاحتلال الإسرائيلي من خلال حرب استنزاف متواصلة. وفي الوقت نفسه، أظهرت مشاركتها في الانتخابات البلدية والتشريعية للسلطة الفلسطينية عام 2006، والتي برزت فيها كأكبر حزب، استعدادها للعب دورٍ في الحكم ضمن هياكل أوسلو. نظّمت الولايات المتحدة وإسرائيل، في وقت لاحق، انقلابًا لمنعها من ذلك، ممّا أدى إلى احتفاظ حركة فتح بالسيطرة على السلطة الفلسطينية في جيوب الضفة الغربية وحصر إدارة حماس في غزة وخضوعها لحصار إسرائيلي. ثم حدث بعد ذلك ما يسميه طارق بقعوني بِـ "التوازن العنيف"، حيث استخدمت حماس الهجمات الصاروخية للضغط على إسرائيل لتخفيف الحصار، بينما استخدمت إسرائيل القوة الساحقة لمعاقبة شعب غزة بشكل جماعي.25

المقاومة الشعبيّة

زاد الانفصال السياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية من انقسامات الحركة الفلسطينية. "عُزِل الفلسطينيون في جيوب جغرافية مُنفصلة عن بعضها البعض"، كما كتب الأسير الفلسطيني وليد دقّة من سجنه الاسرائيلي عام 2011، بغاية تحطيم "منظومة القيم الجماعية التي تُجسّد مفهوم الشعب الواحد المتّحد"، لقوْلبة الوعي الفلسطيني" نحو السلبيّة والفردية. ولكن في سنوات ما بعد الألفية نشأت آمال جديدة لتجاوز هذا الانقسام، من خلال حراك شعبي فلسطيني مزدهر خارج نموذج الكفاح المسلّح. لم يعُد إقبال أحمد حيًّا ليشهد ذلك، ولكنّ مقاومة أقرب لرؤيته أخذت تتشكّل. ومن الأمثلة على ذلك دعوة مجموعةٌ واسعة من الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات فلسطينية أخرى  إلى مبادرات "مقاطعة إسرائيل" على غرار الحظر التجاري والرياضي الذي فُرض على جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري. وقد صُمّمت مطالب المقاطعة الثلاثة لتشمل جميع شرائح الشعب الفلسطيني - اللاجئين، والواقعين تحت الاحتلال، ومن لديهم حقّ المواطنة داخل إسرائيل. من خلال رؤيته لـ" الأجزاء الثلاثة المتكاملة لشعب فلسطين"، تجاوز نداء المقاطعة الإطار التقسيمي وتركيز أوسلو على دولة في الأراضي المحتلة. كذلك مسيرة العودة في عام 2018، كمثال آخر. إذ انطلقت مظاهرات أسبوعية على طول السياج الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل، ضد الحصار ومن أجل حق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم في فلسطين التاريخية التي أُجبروا على الخروج منها، وهي فكرة تحاكي اقتراح أحمد السابق بأن يسير الفلسطينيون العزل في مسيرة نحو الحدود الفاصلة مع إسرائيل رافعين لافتات "نريد العودة إلى ديارنا". في ذكرى النكبة في ذلك العام، قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 59 مشاركًا أعزل في المسيرات، ممّا أدّى إلى مزيد من الاحتجاجات في جميع أنحاء فلسطين.26

 وبعد ثلاث سنوات، استمرت المقاومة الشعبية عندما صدرت الأوامر بطرد السكان الفلسطينيين، ومعظمهم لاجئون من مُهجّري عام 1948، من حيّ الشيخ جرّاح بالقدس الشرقية وتسليم منازلهم للمستوطنين الإسرائيليين. احتشد الفلسطينيون في الضفة الغربية، وداخل الخط الأخضر، وعلى الحدود اللبنانية والأردنية، موحّدين مختلف شرائح الشعب الفلسطيني في احتجاج مشترك ضدّ عمليات الطرد القسري العنيف للاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وأعقب ذلك إضرابٌ عام للعمّال الفلسطينيين على جانبيْ الخط الأخضر، وقد أصدر قادة الإضراب بيانًا أشاروا فيه إلى فصل جديد من فصول النضال المتّحد ضدّ الاستعمار الاستيطاني:

"نحن شعب واحد ومجتَمع واحد في جميع أنحاء فلسطين. قامت العصابات الصهيونية بتهجير معظم أبناء شعبنا بالقوة، وسرقة بيوتنا وهدم قرانا. لقد صمّمت الصهيونية على شرذَمة من بقي في فلسطين وعزلنا في مناطق جغرافية مُقَطَّعة وتحويلنا إلى مجتمعات مختلفة ومتفرّقة، بحيث تعيش كل مجموعة في سجن كبير منفصل بذاته. هكذا تسيطر الصهيونية علينا، وتُشتِّت إرادتنا السياسية وتمنعنا من النضال المتّحد ضد النظام الاستعماري الاستيطاني الإحلالي العنصري في كلّ فلسطين".

بشمولها جميع الفلسطينيين بغضّ النظر عن موقعهم داخل بُنيَة الاستعمار الصهيوني، تجاوزت هذه المبادرات القاعديّة إطار أوسلو التقسيمي. وقد كان ظهورها لحظة مفصليّة في النضال الوطني الفلسطيني، كما كتب معين رباني، المحرّر المشارك في مجلة جدليّة، لأنّه يعني أنّ "النموذج البَلَدي للسياسة الفلسطينية قد تحطّم". وعلى الرغم من أنّها لم تستمر لفترة طويلة بما فيه الكفاية لإطلاق سياسة جديدة كاملة، إلا أنّها ولَّدت رؤية لإمكانيات المستقبل.27                                

نالت التحركات الشعبية لسنتي 2018 و2021 دعم حماس؛ فقد قرّرت أنّ الاحتجاجات الشعبية تُقدّم لها طُرقا لتغيير " التوازن العنيف" الذي وجدت نفسها فيه، إذْ خشيَت أن ينتهي بها الأمر في غزّة المحاصَرة كمسدي خدمات لا غيْر. عام 2021، أصدرت الحركة إنذارًا بإطلاق الصواريخ إذا لم تغادر القوات الإسرائيلية حيّ الشيخ جرّاح. لم تنسحب إسرائيل وردّت بقصف غزّة مُخلّفة 256 شهيدا وقرابة الألفي جريح.28

من الممكن أن يكون تجاوز الوضع القائم الخانق حافزًا لحماس والحركات المُسلّحة الأخرى لشنّ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. قُتل 1200 شخص في المستوطنات الإسرائيلية والقواعد العسكريّة وأُسِر 250 شخصا خلال الهجوم المفاجئ الذي اخترق الحصار المفروض على غزة. تراوحت الخيارات لدى حماس، كما يكتب باكوني، "بين الموت البطيء - كما يُسمّيه الكثيرون في غزّة - وإحداث خلل جوهري في المعادلة بأكملها". الآن، أغلب الآراء التقدميّة الغربيّة تتمنّى مقاومة فلسطينية دون حماس. وبينما تختلف آراء الفلسطينيين حول سياسات حماس، هناك قبول واسع بأنّ هذا الفصيل جزء لا يتجزأ من النضال التحرري لسبب منطقي للغاية: من الصعب توقع أن يتخلّى شعب يتعرض للإبادة عن أهمّ مجموعة مسلّحة تُدافع عنه.29

مُفارقَات الحاضر

منذ هجوم حماس لا يوجد حتى الآن أيّ تفكّك أيديولوجي في المُعسكر الصهيوني أو عزل جوهري لإسرائيل من الحكومات الداعمة لها. فالمجتمع الإسرائيلي متّحد إلى غاية اللحظة حول حكومة نتنياهو، وما زال دعم إدارة بايدن قويَّا، على الرغم من المظاهرات الواسعة داخل الولايات المتحدة وتهديد أعداد كبيرة من مؤيدي الحزب الديمقراطي بسحب أصواتهم منه في الانتخابات الرئاسية لهذا العام. وفي فرنسا وألمانيا، يُقمع التضامن مع القضيّة الفلسطينية بشدّة. في المملكة المتحدة، قُدّم تشريع جديد ليحول دون تعاطي السلطات المحليّة والجامعات مع سياسات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، كما يناقش الوزراء إمكانية إدراج دعم فلسطين في تعريف التطرّف. إن الرأي السائد بين الجناحيْن الليبرالي والمحافظ في القيادات والحكومات الغربية هو الالتزام المُطلق بدعم إسرائيل.30

في الوقت نفسه، بعيدًا عن النخب الحاكمة، قفز التضامن مع فلسطين إلى واجهة الوعي العالمي. لا يتعلّق الأمر بمجرّد ردّة فعل تلقائية على المشاهد المريعة للمعاناة الغزّواية، بل هو نتيجة لما يزيد عن عقدين من الزمن من التنظُّم القاعدي القويّ، خاصة في الولايات المتحدّة الأمريكية وبعض بلدان أوروبا وجنوب أفريقيا. في الأشهر الأخيرة، جاب الملايين من الناس من كلّ القارات الشوارع في مظاهرات حاشدة للمطالبة بوقف الاعتداء الإسرائيلي العسكري على غزّة وإخلاء الضفة الغربية من الاحتلال العسكري. وُضِعت أسس هذه المعارضة العالمية المُتنامية للصهيونية إلى حدٍّ كبير على يد حملة مقاطعة إسرائيل BDS. إذن فإسرائيل بصدد خسارة الحرب الدعائيّة. تبقى محاولات تقديم المقاومة الفلسطينية كشبيهة لداعش أو "تماما مثل داعش والقاعدة"، كما صرّح بذلك الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوغ لصحيفة نيويورك تايمز، غير مُقنعة. بشكل متصاعد، تتحقّقُ انتصارات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على مستوى الرأي العام والنقابات والمنظمات المهنيّة ومكوّنات أخرى للمجتمع المدني. في ما ما زال من شأن إظهار الدعم لفلسطين التسبُّب في طردك من وظيفة أكاديمية بالولايات المتحدة، إلّا أنّ نطاق هذا الدعم بات أوسع بكثير ممّا كان عليه من قبل. 

ورغم ما يظهر من دعم شامل لإسرائيل - ثابرت طويلًا على ترسيخه المنظّمات اليهودية الكبرى في الولايات المُتحدّة الأمريكية - فإنّ وجهات نظر اليهود الأمريكيين اليوم منقسمة أشد الانقسام. وكتب الصحفي بيتر بينارت أنّ "التحول إلى عدد صغير من المانحين فاحشي الثراء" قد "عزل المنظمات اليهودية الأمريكية عن الاتجاهات السياسية لدى اليهود الأمريكيين ككُل". على عكس العقديْن الماضيين، يُوصف اليوم القادة الإسرائيليون، وليس الفلسطينيون، في وسائل الإعلام الأمريكية بأنّهم من يرفض خُطّة أوسلو للسلام.31 

الأهمّ من ذلك، هو انهيار الإطار التقسيمي الذي هيمن لعقود على فهم القضية الفلسطينية. في حين ما زال المسؤولون الحكوميون في الولايات المتحدّة وأغلب الدول الأوروبيّة يُنادون به، إلّا أنّ أكثر من عشرين سنة من التنظّم قد نجحت في تحويل الفهم السائد لإسرائيل نحو أنّها دولة احتلال استيطاني وفصل عنصري. لو كان إقبال أحمد بيننا اليوم لشعُر باليأس من القتل الجماعي الذي ترتكبه إسرائيل في غزّة ولامتعض من غياب جسم فلسطيني حاكم قادر على تنظيم مقاومة ذات أوجه مُتعدّدة؛ فرغم نقائصها، إلّا أنّ منظمة التحرير الفلسطينية كانت خلال السبعينيات والثمانينيات قاطرة للتمثيل الوطني والتعبئة الوطنية. ومع ذلك، كان سيستمدّ بعض التفاؤل من موجة التضامن العالمي غير المسبوقة التي شهدها العالم مؤخرًا وتبنيه لإطار تحليل الصهيونية كاستعمار استيطاني. واليوم، كما في الماضي، كما يشير نوبار هوفسبيان،"ربّما سيظلّ إقبال يردّد أنّنا بحاجة إلى أن نكون أكثر إبداعًا في التفوّق على العدو".32

Ideas into movement

Boost TNI's work

50 years. Hundreds of social struggles. Countless ideas turned into movement. 

Support us as we celebrate our 50th anniversary in 2024.

Make a donation