وإن اختلف إقبال أحمد وفايز صايغ حول استراتيجيات المقاومة، إلّا أنّهما اتفقا على أنّ الصهيونية هي شكل من أشكال الاستعمار الاستيطاني. جادل فايز صايغ في كتابه المرجعي ’الاستعمار الصهيوني في فلسطين‘، الذي نُشر عام 1965، بأنّ الحركة الصهيونية هدفت أوّلا إلى تأسيس "مجتمع استيطاني" ثمّ "دولة استيطانية في فلسطين"، في تقليدٍ للمغامرات الأوروبيّة الاستعماريّة خلال القرون الماضية. إذ قيل أنّه "طالما نجحت البلدان الأوروبيّة الأخرى في التوسع في آسيا وإفريقيا، وألحقت بنطاقها الإمبريالي أجزاء واسعة من هاتين القارتين، فإنّ "الأمّة اليهودية" تستحقّ وتستطيع بدورها القيام بذلك لنفسها". لم يُقصّر القادة الصهاينة في الإدلاء بالتصريحات التي تدعم هذا التأويل.
كتب مهندس الصهيونية الحديثة ثيودور هيرتزل عام 1896 أنّ دولة يهودية في فلسطين ستكون بمثابة "جزء من متراس أوروبا ضدّ آسيا، مخفرٌ متقدّمٌ للحضارة في مواجهة الهمجيّة". تكرّر نفس الموقف الاستعماري في 1947، حين صرّح حاييم وايزمان، والذي سيصبح لاحقا أوّل رئيس لإسرائيل، أمام لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين:
"هناك آخرون احتلّوا بلادا عظيمة وغنيّة. وجدوا حين دخلوها شعوبا متخلّفة، وفعلوا بهذه الشعوب ما فعلوا. لستُ مؤرّخا ولست هنا للحكم على النشاط الاستعماري لعديد البلدان العظمى التي احتلت مناطق متخلّفة، لكنني أريد القول بأنّ تأثيرنا على العرب، مقارنة بالنتائج التي خلّفتها الأنشطة الاستعماريّة لغيرنا من الشعوب، لم يُسفر عن نتائج أسوأ بكثير ممّا أحدَثه هؤلاء".
اليوم، يتواصل وسم إسرائيل ببؤرة الحضارة الغربية. فعلى سبيل المثال صرّح الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرزوغ في ديسمبر/كانون الأول 2023 بأنّ "الحرب على غزة هي في الحقيقة حرب لإنقاذ الحضارة الغربية وقيم الحضارة الغربيّة" وأنه لولا إسرائيل "ستكون أوروبا هي التالية".8
رأى فايز صايغ التجانس بين الصهيونية والاستعمار الأوروبي لآسيا وأفريقيا في القرن التاسع عشر، إلّا أنّه أشار إلى اختلافات مهمّة بينهما. بالنسبة للصهيونية فإن "الاستعمار هو أداة لبناء الدولة وليس ناتجا ثانويا لقوميّة متحقّقة بالفعل." علاوة على أنّ الصهيونية "حالة شاذّة"، فهي استعمار أُطْلِقَ في عصر تصفية الاستعمار، ممّا اضطرّها إلى مواجهة مشكلة أنّ الفلسطينيين قد بلوروا بدورهم تطلّعات قوميّة. ممّا يفسّر الحماسة الصهيونية الشديدة "للطرد الفعليّ للسكان الأصليين". لا يسعى المستعمرون الصهاينة في نهاية المطاف إلى إنشاء دولة كجنوب إفريقيا في الشرق الأوسط، حيث يجري إخضاع الفلسطينيين كقوّة عمل مفصولة عنصريًا ومُستغَلَّة بشكل كبير، بل يسعون إلى القضاء التامّ على الفلسطينيين. حين تجد إسرائيل نفسها غير قادرة على تحقيق هذا الهدف تتّخذ شكل دولة فصل وتمييز عنصري. في كلتا الحالتين فإن "العنصرية هي لُبُّ الصهيونية". بعد مرور أكثر من خمسين سنة على نشر صايغ لكتاب ’الاستعمار الصهيوني لفلسطين‘، أقرّت مُنظّمتي هيومن رايتس واتش والعفو الدوليّة أنّ إسرائيل تُدير نظام تمييز عنصري. لكن غاب عن رواياتهما تفسير لماذا تتضمّن الصهيونية نزعة الإقصاء العنصري. دون مناقشة ديناميكيات الاحتلال الاستيطاني، التي لخّصها صايغ، بدَت سياسات إسرائيل التمييزية كما لو كانت نتيجة قرارات فردية لسياسيين عنصريين وليست تمظهراتٍ لمسار بُنيويّ أعمق.9
حين تقرأ اليوم تحليل إقبال أحمد الأكثر تفصيلا حول الصهيونية: " "الريادة"في العصر النووي: مقالة عن إسرائيل والفلسطينيين"، والتي نشرت عام 1984 في الدورية الأكاديمية "رايس آند كلاس" (العرق والطبقة)، ستجدها مقالة تفيض برؤى تبدو مُعاصرة. فالمنطق الكامن وراء الاحتلال الصهيوني لم يتغيّر طوال نصف قرن من الزمن، وبالتالي يظلّ تحليل إقبال أحمد ملائما. وعلى غرار صايغ، يعتقد أحمد أنه على الرغم من وجود أوجه تشابه مع نظام الميْز العنصري في جنوب أفريقيا، إلا أنّ الصهيونية مختلفة "بُنيوَيًا وجوهريًا".
ولقد حاجج بأنّ المقارنة الأكثر دقّة هي مع الاستعمار الاستيطاني الأوروبي في الأمريكيّتيْن. فمع كليهْما، كانت هناك" أساطير الأرض الخالية، والمستنقعات المستصلحة والصحاري المزدهرة... وعُقد مسيحية عن الأقدار المتجليّة والأراضي الموعودة... وتشوّه بارانويِي في الثقافة المُستعمِرَة، وموقف أداتي تجاه العنف والميل إلى التوسّع". وأشار إلى أن المستعمرات الاستيطانية من هذا النوع تنحو إلى تحقيق ثلاثة أهداف: مستوى معيّن من الاستقلال عن الدول الغربية الراعية لها؛ تطبيع علاقاتها مع البلدان المجاورة؛ وحلّ ما تعتبره "مشكلة السكان الأصليين"، من خلال القضاء عليهم أو طردهم أو احتوائهم.10
يمكن للولايات المتحدّة الأمريكية الزعم بأنّها حققت هذه الأهداف في القرن التاسع عشر، وإن لم تتوقف مقاومة السّكان الأصليين أبدا. خلال عقد الثمانينيّات، كانت إسرائيل تلاحق هذه الأهداف ولم تزَل إلى اليوم. لطالما كان سعيُ اسرائيل للاستقلال عن راعيها، أيْ الولايات المتحدّة الأمريكية، أمرًا مُتشعّبًا. فمن جهة، ارتأت أن تزرع أجندتها بشكل وثيق وسط النخب الأمريكية الحاكمة حتى تُضعف احتمال أن تضع هذه النخب قيودا على الاستعمار الإسرائيلي؛ ومن جهة ثانية، قلّلت إسرائيل بثبات اعتمادها العسكري والمالي على الولايات المتحدّة الأمريكية. إذ أنّ نسبة الدعم الأمريكي المالي من إجمالي الناتج القومي لإسرائيل هو اليوم أقلّ بكثير ممّا كان عليه قبل أربعين سنة. مثّلت المساعدات الأمريكية ما يقارب 10% من الاقتصاد الإسرائيلي عام 1981؛ أمّا في عام 2020 فإنّ الـ 4 مليار دولار التي توفّرها الولايات المتحدّة، ورغم أنّها أعلى من حيث القيمة المطلقة، تقارب 1% فحسب من هذا الاقتصاد. لا تعتمد صناعة الأسلحة في إسرائيل كلّياً على استيراد الأسلحة الأمريكية الصنع، لكنها ما تزال بحاجة إلى الحماية العسكرية والدبلوماسية الأمريكية؛ إذْ تعتمد على الولايات المتحدة لصدّ هجومات القوّات الأخرى في المنطقة التي تساند الفلسطينيين عسكريًا، كما يتّضح من القصف الذي قادته الولايات المتحدة هذا العام على جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن - واستخدامها لمقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، حيث دأبت على استعمال حق النقض (الفيتو) ضد القرارات التي تهدف إلى كبح جماح العنف الإسرائيلي. إذا كان التطبيع مع إسرائيل في متناول اليد، فذلك لأن الولايات المتحدة وضعت ثقلها وراء اتفاقات أبراهام التي أضفت الطابع الرسمي على اعتراف الدول العربية بالسيادة الإسرائيلية.11
تجد إسرائيل الصعوبة الأكبر مع الهدف الثالث للاحتلال الاستيطاني: حلّ مشكلة "السكان الأصليين". على مرِّ تاريخها، استخدمت إسرائيل طُرقا مختلفة لطرد الفلسطينيين: إخراجهم المتواصل من منازلهم عبر القوانين واللوائح التمييزية، والترهيب والعنف لدفعهم للمغادرة، والتطهير العرقي تحت غطاء الحروب مثلما حصل أعوام 1948 و1956و1967 وما يحصل الآن في الضفة الغربية وغزّة. إن الجغرافيا اللاإنسانية لقطاع غزة - حيث يُسجن ويُحاصر 2.3 مليون فلسطيني أغلبهم لاجئين يُجوّعون عن قصد ويُحْرَمون من الماء النظيف ومُعرّضون دوريًّا للقصف – هي في حدّ ذاتها نتيجة لمسار التهجير القسري من مناطق فلسطينية أخرى. يبدو أنّ القادة الإسرائيليين يعتقدون الآن بأنّ هناك فرصًا للتوسع الاستيطاني في هذه المساحة الضيقة من الأرض وإحدى أكثر الأماكن كثافة سكانية في العالم، إذا أمكن لهم حشَر الغزّاويين الناجين من حرب الإبادة في جنوب القطاع أو حتى تهجيرهم إلى شبه جزيرة سيناء المصرية. تُنفّذ السياسة الحالية المُتّبَعة في غزة بقيادة الشخصيات الأكثر تطرّفا في تاريخ إسرائيل، إلّا أنّ هذا العنف لا ينبع من حزب مُعيّن، بل هو من المرتكزات الأساسية للصهيونية. الهدف كان دائما سحق الشعب الفلسطيني وتفتيته إلى ألف شظيّة، بحيث يقع تركيزه واحتواؤه في بُقع أضيق من أي وقت مضى من أرضه، في حين تتوسّع باطّراد المستوطنات اليهودية المُدجّجة بالسلاح والمتمتِّعة بشتّى الموارد. ورغم الممارسة المستمرّة للإرهاب الإسرائيلي، مازال هناك أكثر من 7 مليون فلسطيني يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط، مع 6 ملايين آخرين يعيشون في الدول المجاورة، الكثير منهم في مخيمات اللاجئين ومُعْظمهم عازمون على العودة إلى وطنهم. لن تنجح إسرائيل على الأرجح في هدفها الحالي: تفكيك حماس، ولكن حتى إن نجحت فسوف يتواصل الكفاح الفلسطيني في سبيل التحرّر الوطني.12
طبعا إسرائيل نفسها أنشأها لاجئون، لكن عِوض أن يُنظر لهذا كعامل جعل من إسرائيل استثناءً كمُستعمرة، يُشير إقبال أحمد إلى أنّها ليست استثناءً في تاريخ الاستعمار الاستيطاني. تتشابه الصهيونية مع المستعمرات الأوروبيّة في أمريكا الشمالية، لجهة توفيرها ملجأً للأقليات الدينية المُضطهَدة في أوروبا، وميْلُ دُعاتها إلى تبنّي خطاب الحقوق الليبرالية رغم سعيها الحثيث إلى" إقصاء السكان الأصليين والقضاء عليهم". لاحقًا، جلب القادة الأوروبيّون لإسرائيل يهودًا من الشرق الأوسط، كجزء من مجهودهم لتعويض الفلسطينيين ديمغرافيًا - مُزينين سُمعة إسرائيل كملجأ، رغم أنّ هؤلاء المواطنين الجدد كانوا في موقع اجتماعي دونيّ. تكمن استثنائية الصهيونية في أنها دولة استعمارية استيطانية تشكلّت عام 1948، أي في مرحلة تاريخية متأخّرة، مما اضطرّها إلى بلورة أساليب استعمارية أكثر تطورًا. كتب إقبال أحمد أنّ "المصير الفريد" للفلسطينيين يتّسم بمواجهتهم "ظاهرة لافتة للنظر - حركة استعمارية استيطانية في القرن العشرين، حركة أفضل تنظيمًا بلا منازع وأكثر استماتة وانضباطًا وتشعُّبًا، وإن كانت أضعف بطبيعتها، من سابقاته" . يمكن رؤية هذه القدرة على التنظيم الجيّد بالغ الانضباط، على سبيل المثال، في الطريقة التي طوّرت بها إسرائيل نفسها لتصبح واحدة من أكبر مُصدِّري الأسلحة في العالم. فمن خلال تصدير الأسلحة أو التدريب على مكافحة التمرد لحساب الأنظمة الاستبدادية اليمينية المتحالفة مع الولايات المتحدة، في جنوب أفريقيا والأرجنتين وشيلي وغواتيمالا وهندوراس، عندما كانت الولايات المتحدة غير قادرة على التصرف بنفسها بسبب المخاوف المحليّة أو الدبلوماسية، خلقت إسرائيل "روابط جديدة وعضوية" مع الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة. كتب إقبال أحمد: "لا يمكن التقليل من أهمّية هذا التطوّر" .13
على نفس القدر من الأهميّة، جاءت الطرق المُعقّدة التي اعتمدتها إسرائيل لإدارة التحديّات الديموغرافيّة المُلازمة لأي دولة استيطانيّة. إذْ اعتمد اقتصادها الرأسمالي بشكل متصاعد على اليد العاملة الفلسطينية، وقد توقع القادة الإسرائيليون الخطر الداهم الذي مثّله هذا المشروع على المدى البعيد. لقد راقبوا كيف شكّل الاعتماد البنيوي لجنوب أفريقيا في الثمانينيات على اليد العاملة السوداء هشاشة خطِرة، لما يتيحه ذلك لحركة مناهضة الفصل العنصري من فرص استعمال الإضرابات العماليّة لإضعاف المنظومة. تجنّبت إسرائيل مصيرًا مماثلًا عبر البحث المتواصل عن خَزّانات جديدة من العمَالة اليهودية (من الاتحاد السوفيتي السابق مثلا)، مُركّزة على الصناعات كثيفة رأس المال (مثل تصنيع أجهزة مُراقبة ومنتجات عسكرية عالية التقنية) وجلب يد عاملة مُهاجرة ومؤقتة من آسيا.14