* غسان كنفاني, (1969) "عائد إلى حيفا".
عند تفحص الوثائق المتعلقة بالهيدروجين الأخضر المعدة من طرف الشركة التونسية للكهرباء والغاز21 قبل احتداد الصراع الروسي الأوكراني، نلاحظ أن المسوغات التي تم اعتمادها حينها من أجل الدفع نحو هذه التقنية وطنيا هي المرونة و المساهمة في التصرف الأمثل لمواجهة تقطعات الطاقات المتجددة المتسببة في عدم القدرة على التحكم في نسق إنتاجها (وهو العنوان الذي أعطي لهذه الوثيقة).
من أجل ذلك، تم عرض شكل الأحمال الكهربائية بتونس – ضمن هذه الوثيقة – خلال مختلف الفصول كحجة تبين أهمية اعتماد الهيدروجين الأخضر خزانا للطاقة في ظل عدم إمكانية استغلال كل الكهرباء المنتجة من الطاقات المتجددة خلال فصول تراجع الاستهلاك المحلي للكهرباء .
إذن، الهدف الأساسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر كان في البداية تجاوز الإشكاليات التي يطرحها المخطط الشمسي التونسي22. وقد تضمنت الوثيقة المذكورة أعلاه أيضا الخطوات اللازمة (بدون تفصيل) من أجل بلوغ الأهداف المرجوة مثل إعداد مخطط وطني استراتيجي للهيدروجين الأخضر وخارطة طريق لتحديد مجالات التطبيق الممكنة و الأنسب للبلاد.
لكن ومع أزمة التزود بالطاقة التي تعيشها دول أوروبا ( ألمانيا بالخصوص) على مدار السنتين الفارطتين ( جراء الحرب في أوكرانيا)، تم العدول عما ذكر آنفا و قامت الوكالة الألمانية للتعاون الفني بدورها من أجل تحويل أهداف المشروع عبر إشرافها على إعداد الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر في تونس الهادفة لتصدير جل الإنتاج وكل الدراسات الصادرة عن سلطة الإشراف في هذا المجال.
لسائل أن يسأل عن البدائل الممكنة لتجاوز ما تضمنته هذه الاستراتيجية الوطنية و كيف يمكن أن تستفيد البلاد حقا من هذه النوعية من المشاريع بعيدا عن المطامع الاستعمارية للدول الغربية خاصة. لكن و قبل طرح هذه البدائل، لا بد – من وجهة نظرنا – تجاوز الإشكاليات التي ساهمت في هذه التوجهات وغذتها وسمحت للوكالات الأجنبية بالتدخل ولعل على رأسها المخطط الشمسي التونسي بصيغته الحالية.
هذا المخطط الذي تعتبره السلطة الحل الأمثل لتجاوز عجز البلاد الطاقي، أصبح يمثل إشكالا نظرا لكونه لا يعبر عن استجابة حقيقية لمتطلبات الواقع التونسي وإنما صدى للتوصيات والإملاءات الغربية (الأوروبية خصوصا). وقد أصبح تعديل هذا المخطط على مستوى المضامين ضرورة قصوى:
بداية، لا بد من مراجعة توزيع نوعية الطاقات المتجددة المزمع تركيزها: فالكميات المبرمجة لطاقة الرياح ضمن هذا المخطط لا تستجيب لخصائص الاستهلاك الوطني للكهرباء مما سيحافظ على تبعيتنا تجاه الغاز الطبيعي المستورد خصوصا خلال فترة الذروة الصيفية أي الفترة التي تمثل إشكالا كبيرا للتزود بالكهرباء. ولتعويض ذلك لا بد من الاعتماد على الطاقات الشمسية سواء كانت طاقة حرارية أو فولتوضوئية. هذه الأخيرة التي تسمح – رغم تأثرها بدرجات الحرارة المرتفعة صيفا- بتوفير كميات مستقرة نسبيا من الطاقة الكهربائية على مدار السنة نظرا لما تتمتع به البلاد من معدلات إشعاع شمسي وهو ما سيساهم في التخفيض الكمي لاستهلاك الغاز الطبيعي وتضمن وثوقية أكبر في إمدادات الكهرباء المنتجة مقارنة بطاقة الرياح.
بالإضافة لذلك، لا بد من التسريع في تجهيز البلاد بمحطات تحويل الطاقة عبر ضخ المياه (مثال : مشروع وادي المالح بالشمال الغربي التونسي). هذه المحطات ستمثل خزانا للطاقة خصوصا خلال فترة الذروة الصيفية بقدرة يمكن أن تتجاوز 1000 ميغاوات حسب دراسة أعدتها وزارة الفلاحة تتمحور حول الاستراتيجية المائية للبلاد23 في غضون 2050 وهي مهمة جدا لمجابهة الطلب دون اللجوء للغاز الطبيعي لأنها ستساهم في تخزين الكهرباء المنتجة عند هبوط الطلب الكهربائي.
ولا يفوتنا التذكير بنبذ أوهام التصدير والتركيز حاليا في المستقبل القريب والبعيد على الاستجابة لحاجيات البلاد أساسا عبر تعبئة كافة الموارد المتاحة وتحفيز الاستثمارات العمومية في المجال ودعمها كذلك بالمبادرات المواطنية القائمة على الاستغلال الجماعي لمشاريع الطاقات المتجددة لمجابهة الاستهلاك الذاتي و المحلي.
هذه بعض ملامح ما يمكن أن يكون بديلا و قد تناولته مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة بتفاصيل أكثر من خلال وثائقها السابقة24 كما أنها ستضمنه مستقبلا بالتركيز على الآليات العملية لمجابهة العجز الطاقي والدفع بعملية التنمية خصوصا في الجهات التي عانت التهميش لعقود .
أما بخصوص الهيدروجين الأخضر، فالأوْلى هو إعادة النظر في مجمل الاستراتيجية الوطنية و ذلك عبر إخضاعها لمعيار المصلحة الوطنية والاستجابة لمتطلباتها بغض النظر عما تخطط له الوكالات الأجنبية المنتصبة بالبلاد والتي لا تخدم سوى مصالح بلدانها. وإذا كان الاستثمار في الهيدروجين الأخضر ضرورة تفرضها المصلحة والوقائع وما يشهده العالم من تحولات، فلا بد من اعتماد مقاربة وطنية شاملة لكافة القطاعات (لا تقتصر فقط على رؤية وزارة الصناعة و الطاقة و المناجم) تساهم حقيقة في دفع التنمية.
فيمكن، مثلا، استغلال الهيدروجين الأخضر من أجل تصنيع الأمونياك الذي نستورده بالكامل25 من الخارج لتلبية احتياجاتنا منه المتعلقة أساسا بإنتاج الأسمدة الضرورية للزراعات. و يكون هذا المشروع في إطار شراكة قطاع عام – قطاع عام بين المجمع الكيميائي التونسي والشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه. هذه الشراكة على مستوى التمويل والاستغلال وبمرافقة من وزارة البيئة ووزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية وتحت إشراف الدولة التونسية ستساهم في خلق ديناميكية جديدة على مستوى المشاريع العمومية. فالشركة التونسية للكهرباء والغاز ستقوم بإنتاج الكهرباء عبر الطاقات المتجددة وتوفيرها للمجمع الكيميائي التونسي الذي سيستفيد من المياه بعد تحليتها من طرف محطات الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وينتج الأمونياك لحاجياته ويمكن حينها تصدير الفوائض إن وجدت.
أما بالنسبة للأراضي التي سيتم استغلالها للطاقات المتجددة، فيمكن القيام بشراكة مع الأهالي سواء عبر المساهمة في الإنتاج بصيغ جديدة ( تعاونيات – شركات اهلية ..) أو عبر تمكينهم من استغلال أجزاء منها فلاحيا والاستفادة من المياه المحلاة لاستصلاحها وتركيز زراعات متناسبة مع طبيعة المناطق التي ستقام عليها هذه المشاريع.
سيساهم هذا المشروع وعبر عدم الاقتصار على استغلال محطات التحلية لأغراض صناعية وإدماج توفير مياه الشرب ضمنه – خصوصا بالجنوب التونسي - في عوائد لا اقتصادية فقط وإنما تنموية وانعكاسات ذات بعد وطني سيادي من خلال الاستثمار في الثروات الطبيعية لصالح المجموعة الوطنية .
هذا نموذج لما يمكن أن يكون من تصورات ومقاربات حول البدائل لمشاريع الهيمنة المفروضة من دوائر رأس المال العالمية في استعادة للماضي الاستعماري بصيغ جديدة وحتى لا يكون وادي الهيدروجين26 المزعوم " واد غير ذي زرع ".