يبدو أن ما يوحِّد جميع المشاريع “الخضراء” المذكورة أعلاه هو افتراض خاطئ بأنّه يجب التّرحيب بأيّ توجّه نحو الطاقة المتجدّدة، وأنّ أيّ تحوّل عن الوقود الأحفوري، بغضّ النّظر عن كيفيّة تنفيذه، يستحقّ العناء. يحتاج المرء أن يقول ذلك بوضوح: أزمة المناخ التي نواجهها حاليّاً لا تُعزى إلى الوقود الأحفوري في حدّ ذاته، بل تكمن في استخدامه بطريقة غير مستدامة ومدمّرة من أجل تغذية الآلة الرأسماليّة. مشاريع كهاته تضفي الشرعية على الفكرة المشبوهة لـ”الرأسمالية الخضراء”، وتوفر غطاء علاقات عامة لشركات الطاقة الكبرى وأنظمة النفط والغاز. دعم المشاريع الكبيرة “للطاقة النظيفة” يتيح لها تقديم نفسهل على أنها حامية للبيئة مع إخفاء حقيقتها ككيانات مجرمة وملوثة للبيئة.
يجب أن يغيِّر التّحوّل/الانتقال الأخضر والعادل بشكل أساسي نظامنا الاقتصادي العالمي الذي لا يصلح على المستوى الاجتماعي والبيئي، وحتى البيولوجي (مثلما كشفته جائحة كوفيد-19)، وأن ينهيَ العلاقات الاستعمارية التي ما زالت تستعبِد الشّعوب. يجب أن نتساءل دائماً: من يمتلك ماذا؟ من يفعل ماذا؟ من يحصل على ماذا؟ من يفوز ومن يخسر؟ ومصالح من تأتي في المرتبة الأولى؟ نحن بحاجة إلى الابتعاد عن المنطق الإمبريالي والعرقي (وكذلك المنطق التمييزي على أساس جندري) لتحميل العبء للآخرين، الذي إذا تُرك دون تحدّي، فإنه لن يؤدي إلّا إلى استعمار أخضر ومزيد من السعي للاستخراج والاستغلال من أجل أجندة خضراء مزعومة.
يستلزم الكفاح من أجل العدالة المناخية والانتقال العادل أخذ المسؤوليات ونقاط الضعف المتفاوتة بين الشمال والجنوب في عين الاعتبار. لذلك يجب سداد الديون البيئية والمناخية إلى بلدان الجنوب العالمي التي باتت أكثر تضرراً من تغيرات المناخ والتي حبَستها الرأسمالية العالمية في نمط استخراجي نهّاب ومدمّر. في سياق عالمي من اللّبرلة القسرية والدفع باتجاه صفقات تجارية غير عادلة، بالإضافة إلى التكالب الإمبريالي على النفوذ وموارد الطاقة ، يجب ألا يصبح أيّ انتقال أخضر وأيّ حديث عن الاستدامة واجهة أنيقة لامعة لمخططات الاستعمار الجديد للنهب والسيطرة.
غالبا ما يجري الحديثُ، عند تطبيق المشاريع المتجددة في بلدان الجنوب، عن نقصِ الخبرة التكنولوجية. لماذا؟ أليس الأمرُ مرتبطاً بعلاقات السيطرة وتملكِ الثروة؟ أَلا يُعزى ذلك إلى احتكار التكنولوجيا، وإلى نظام الملكية الفكرية الذي أبان عن وحشيّته إبان الجائحة الراهنة؟ يجب أن يكون نقلُ التكنولوجيا والمعرفة، والخبرة، وتصاميم تكنولوجيا الطاقة المتجددة حجرَ ناصيةِ كلِّ انتقالٍ طاقوي عادل، وإلاَّ نبقى أسرى تبعيةٍ دائمةٍ.
يمثل الانتقال العادلُ في هذا السياق انتقالا مُنصفا نحو اقتصادٍ مستدام إيكولوجياً، ومنصفٍ وعادلٍ لكل أعضائه. ويعني الانتقالُ العادل انتقالا من نظام اقتصادي قائم على استخراج مفرط للموارد واستغلال الأشخاص إلى نظام مُهيكل بالأحرى حول استرجاع وإحياء مجالات الحياة والحقوق وكرامة البشر. إن الرؤيةً الجذرية للانتقال العادلِ هي تلك التي تُدرك وترى تدمير البيئة والاستخراج الرأسمالي، والعنف الإمبريالي، واللامساواة، والاستغلال، والتهميش على محاور العرق والطبقة والنوع الاجتماعي، ومن ثم تحلّلُها بصفتها مفاعيل متزامنة تعمل ضمن نظام شامل يحتاج إلى التغيير. و”الحلول” التي تسعى إلى تناول بُعد واحد، مثل الكارثة البيئية، دون اعتبار البنيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الكامنة خلفها، هي بالأساس “حلول زائفة”.
طبعاً، سيتخذُ الانتقال العادل أشكالاً متباينةً بحسب الأمكنة. في الواقع، من الأفضل الحديثَ عن انتقالات بصيغة الجمع لأخذ هذا البُعد بالحسبان. يجبُ أن نكون، والحالة هذه، حسَّاسين لكون التفاوتات العالمية والتاريخية جزءاً مما يجب تحويله لبلوغ مجتمع عادل ومستدام. ما يعني أن الانتقال العادل قد يدلُّ على أمور بالغة التباين حسب الأمكنة. فما قد يُناسب أوربا ليس بالضرورة قابلاً للتطبيق في أفريقيا. وما قد يُلائم في مصر قد يكون غير ذلك في أفريقيا الجنوبية. وما قد يُناسب المناطق الحضرية بالمغرب قد لا يكون جيّداً في مناطق هذا البلد القروية. إن انتقالاً في بلد غني بالمحروقات الأحفورية كالجزائر سيكون بالضرورة مغايراً في بلد مفتقر إليها. يجب إذن أن نثبت القدرة على التخيل وتبني مقاربة غير مركزية استناداً إلى نصائح السكان المحليين أنفسهم.
يجب أيضاً، في هذا الإطار، جعلُ مسألةِ السلطة محورَ التحويل. أي بعبارة أخرى: من يتحكم ويستفيد من استعمال المجتمع لموارده في علاقة مع النظام الطاقوي. وهذا يعني ضرورة الاعتراف بأن النظام العالمي الراهن يُركز السلطةَ وامتيازاتِ استعمال الموارد بأيدي عدد محدود نسبياً من الفاعلين، مع تحميل الأغلبية التكاليف، لكن مع أثر أكبر على الأشخاص الأشد عرضة للتهميش مثل العمال والنساء والمجموعات المصنفة عرقياً. وهذا كذلك يعني القطعَ مع منطق “العمل وِفق المعتاد”، الذي يحمي النخبَ العالمية والشركاتِ متعددةَ الجنسية والأنظمةَ العسكرية، وإرساءَ عملية تحويل اجتماعي وايكولوجي جذرية.
ويستند الانتقالُ العادل كذلك على مفاهيم مثل الديمقراطية والسيادة الطاقويين لتشكيل رؤية عالم يتيح للناس الإفادة والتحكم في الموارد التي يحتاجونها لأجل حياة لائقة، وحيث يقومون بدور سياسي في اتخاذ القرار حول كيفية التصرّف في تلك الموارد ومن يستعملها. يجب أن يكون هذا الانتقال خاضعاً لرقابة المجموعات السكانية، لا أن تترك للقطاع الخاص، لأن المشاركة النشيطة في اتخاذ القرار وبناء الانتقالات أمرٌ حاسمٌ.
أخيراً، لا يقتصر أمر الانتقال على الطاقة. إذ تمثل الزراعةُ الصناعية مكانَ التقاء آخرَ بين السيطرة الإمبريالية وتغير المناخ. فهي ليست إحدى محركات تغير المناخ وحسبُ، بل تُبقي بلدانَ الجنوب أسيرةَ نموذجٍ زراعي غير مستدام ومدمرٍ، قائم على تصدير منتجات زراعات ريعية وعلى استنزاف الأراضي والموارد المائية النادرة في مناطق جافة وشبه جافة، مثل مصر وتونس والمغرب (وكذا الجزائر أكثر فأكثر).
إن الأزمة البيئية والانتقال الضروري يتيحان لنا، من أوجه عدة، فرصةً لإعادة تكييف السياسة. لذا يجب أن يكون النضال من أجل انتقال عادل وعدالة مناخية ديمقراطيًّا للغاية عبر خرط مجموعات السكان الأكثر تضرراً والاستجابة لحاجات الجميع. المقصود بناء مستقبلٍ يتيح للجميع كفايتَه من الطاقة وبيئةً نظيفةً وآمنةً، ومستقبلٍ منسجمٍ مع المطالب الثورية للانتفاضات الإفريقية والعربية، مطالبِ السيادة الشعبية والحرية والعدالة الاجتماعية.
حمزة حموشان باحث جزائري مقيم في لندن. وهو حالياً منسق برنامج شمال إفريقيا في المعهد الدولي (TNI). هو كذلك عضو مؤسس لحملة التضامن الجزائرية وعدالة بيئية شمال أفريقيا وشبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية. اشتغل في الماضي مع بلاتفورم لندن ،غلوبال جستيس ناو (عدالة عالمية الآن)، منظمة وار أون وانت (الحرب على العوز) حول قضايا دمقرطة الطاقة والسيادة على الثروات الطبيعية والنظام الغذائي. شارك في تأليف عدة كتب بما فيها: “الثورة القادمة إلى شمال أفريقيا: الكفاح من أجل العدالة المناخية” و”النضال من أجل ديمقراطية الطاقة في المنطقة المغاربية” وبفصول في “أصوات التحرر: فرنتز فانون” وموسوعة “الإمبريالة ومناهضة الإمبريالية”.