مقدمة: قبل فوات الأوان الحاجة الماسة إلى انتقال عادل في المنطقة العربيَّة

تقدم هذه المقدمة المأخوذة من كتابيْ "تحدي الرأسمالية الخضراء: العدالة المناخية و الانتقال الطاقي في شمال أفريقيا" الذي نُشر بالتعاون مع دار الصفصافة و "تفكيك الاستعمار الأخضر: العدالة الطاقية والمناخية في المنطقة العربية"، الذي نشر بالتعاون مع دار النشر Pluto Press باللغة الانجليزية، تحليلا معمقاّ حول ديناميكيات الانتقال الطاقي في المنطقة العربية.

في سياق تتباطؤ فيه هذه المفاوضات وتصاعد آثار التغير المناخي بعواقبه المقلقة والواضحة التي لا يمكن إنكارها، تقدم هذه النشرية مجموعة من المقالات النقدية حول الانتقال العادل في المنطقة العربية. وتطمح هذه السلسلة لأن تكون موردًا أساسيًا للنشاطات والنشطاء، سواء في المنطقة العربية أو في باقي أنحاء العالم، وتشجع على مواصلة المناقشات النقدية، وبناء تحالفات وائتلافات، وتعزيز القوة الشعبية دعمًا للحلول المحلية من أجل انتقال عادل.

Illustration by Othman Selmi

Illustration by Othman Selmi

أصبحتْ آثارُ الانهيار المناخي واضحةً في المنطقة العربيَّة،1 متمثّلة في تقويض الأسس الإيكولوجية والاجتماعية–الاقتصادية للحياة. تواجهُ دولٌ عربيةٌ مثل الجزائر وتونس والمغرب والسَّعوديّة والعراق والأردن ومصر، تحديات مُناخية كبيرة بسبب موجات الحرّ الحادة والمتكررة، وفترات جفاف مطولة، ما ينذر  بآثار كارثية على الزراعة وصغار المزارعين.2

شهد العراق، الذي يُصنّف ضمن أكثر خمس دولٍ ضررًا مِن التغيّر المُناخي والتصحر، العديد مِن العواصف الرملية المتكررة في 2022، أصابتْ الحياةَ بالشلل، وأرسلت آلاف المواطنين إلى المستشفيات بسبب مشاكل في التنفس. وأشار وزير البيئة العراقي إلى أنَّه على مدار العقدين التاليين سوف يُضرَبُ العراقُ بالعواصف الرملية على مدار 272 يومًا في المتوسط كل سنة، وبحلول عام 2050 ستُصبح على مدار 300 يوم.3 شهد الجزائر في صيف 2021 حرائق غابات غير مسبوقة هائلة ومدمرة، بينما ضربت الكويت موجة حرّ محتد تجاوزت 50 درجة مئوية، وهو رقم قياسي عالمي في ذلك العام، في حين عانت الإمارات واليمن وعمان وسوريا والعراق ومصر من فيضانات مدمرة، بينما واجهت مناطق جنوب المغرب أسوأ موجة جفاف للعام الثالث على التوالي. وتُشير هيئة المُناخ، الهيئة الحكومية الدوليَّة المنوطة بتغيّر المناخ، إلى أنَّ منطقة حوض المتوسط ومنطقة الخليج ستشهد في السنوات المُقبلة، تفاقمًا في الأحداث المناخية المتطرفة، مثل حرائق الغابات والفيضانات، مع تصاعد في وتيرة الجفاف في التربة والأمطار.4

"اللحظة المناسبة هي الآن وإلا فلا، إذا كُنَّا نريد حصار الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية". مثّلتْ العبارةُ السابقة التحذير الذي صدر عن فريق العمل في هيئة المناخ، المكلف بإعداد أحدث التقارير الشاملة (لعام 2022) لعلم المناخ، والذي حذَّرَ بشدّة من أنَّ العالم على شفا الوصول إلى احترار بواقع 1.5 درجة مئوية خلال العقدين المقبلين، ومشدِّدًا على ضرورة خفض الانبعاثات الكربونية بشكل هائل – بدءًا من اليوم – لضمان تجنّب كارثة بيئيّة ومناخية.

يُشار إلى أنَّ تلك الاستعراضات والتقارير تُعدُّ كل ستّ (6) إلى سبع (7) سنوات، لذا رُبما يكون ذلك هو التحذير الأخير من هيئة المُناخ قبل وصول العالم إلى نقطة اللاعودة في الانهيار المُناخي، والذي ستكون عواقبه كارثية. وكما أعلن أمين عام الأمم المُتَّحدة أنطونيو غوتيريس في سياق إطلاق التقرير:

"على أرض الواقع، هذا [المستوى من الاحترار العالمي] يعني غرق مدن كبرى، وموجات حرّ غير مسبوقة، وعواصف مروعة، وندرة مياه على نطاق واسع، وانقراض مليون نوع من النباتات والحيوانات".

يُعَدُّ صغار المزارعين والمشتغلين بالرعي والزراعة والعمال الزراعيين والصيادين كفئات مهمَّشة، أكثر الفئات ضررًا من التغيّرات المُناخية وآثارها. إذ أُجبر بعض سكان المنطقة العربيَّة – اضطرارًا – على مغادرة أراضيهم بسبب موجات الجفاف والعواصف الشتوية الأقوى والأكثر تواترًا، وتوغل الأراضي الصحراويَّة وارتفاع مستوى سطح البحر.5 وبعمق تتأثر المنطقة برمتها وإنتاجها ووارداتها الغذائية بالتغيّرات المُناخية، إذ تدفع تلك التغيّرات نحو فشل مواسم الحصاد، بعد معاناة المحاصيل وشُحّ مصادر المياه تدريجيًا، ما يزيد شعور ومعاناة سكان المنطقة من التغيّرات المُناخية.6 ومع تنامي الإحساس بآثار تلك التغيّرات، سوف تعاني إمدادات المياه القليلة بالفعل من ضغوط هائلة، جرّاء التغيّرات في أنساق تساقط الأمطار وتسرّب مياه البحر إلى خزانات المياه الجوفية. وبحسب ورقة نُشرت في دورية "لانسيت"، ستكون أغلب الدول العربيَّة تحت خط الفقر المائي المدقع، أي أقلّ من مستوى 500 متر مُكعَّب للفرد سنويًا بحلول عام 2050. 7

يحذِّرُ علماء المناخ من التهديدات المرتفعة لحياة سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نتيجة التغيّرات المُناخية التي ستطال قطاعات واسعة والمهددة بالخطر للحياة ذاتها.8 ففي شمال أفريقيا على سبيل المثال، ستشهد حياة فئات كثيرة تلك التغيّرات بقوة، من أهمهم صغار المزارعين في دلتا النيل والمناطق الريفية في كل من المغرب وتونس، والصيادين في جربا وقرقنة (تونس) وسكان عين صالح في الجزائر واللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف (الجزائر)، والملايين من ساكني عشوائيات القاهرة والخرطوم وتونس العاصمة والدار البيضاء. وستمتد تلك المعاناة إلى أماكن أخرى في المنطقة العربيَّة، حيث يواجه السكان فيها ذروة الأزمة المُناخية في ظلِّ حمايةٍ غير متوفرة، وستصعب سُبل الحياة على صغار المزارعين والصيادين في فلسطين المُحتلّة، والنازحين داخليًا واللاجئين في العراق وسوريا ولبنان واليمن والأردن، والعمال المهاجرين المستغَلين أشدَّ الاستغلال في الإمارات وقطر، الذين يعيشون أسوأ ظروف العمل هناك، وسيزيد حرمانهم من الرعاية الطبية الدورية في ظلّ سوء التغذية.

لا يجب التسليم بأنّ الأزمة المناخية واقعًا حتميًّا لا رجعة فيه، إذ ظهرت الأزمة ولا تزال قائمة على إثر قرارات مستمرة بالاعتماد على حرق الوقود الأحفوري، وهو خيار يتحمل مسؤولية كبرى عنه الشركات والحكومات في الشمال، بالشراكة مع الطبقات الحاكمة في مختلف الدول، بما فيها المنطقة العربيَّة. وتضع هذه الأنظمة خطط الطَّاقة والمناخ في ذلك الجزء من العالم بمساعدَّة داعميها في الرياض وبروكسل وواشنطن، فتتحالف نُخب الأثرياء المحلّيين مع الشركات متعدِّدة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. وعلى الرغم من تعهداتها، تبقى تصرفات تلك المؤسسات معاديةً للعدالة المناخية وبقاء الإنسانية ذاتها.

يناقش قادة العالم السياسيون والمستشارون والإعلام ولوبيات الشركات في قمم المناخ (COP – كوب) كل عام، قضية التغيّر المناخي. وعلى الرغم من التهديدات القوية التي يواجهها الكوكب، لا تزال الانبعاثات الكربونية تتصاعد وتُفاقم الأزمة تحت أعين الحكومات. يبدو أنَّه، وبعد ثلاثة عقود من المحادثات البيئيّة (القمم المُناخية) التي لا تؤتي ثمارها، والتي وصفتها الناشطة البيئيّة السويدية جريتا ثونبرغ بأنَّها "كلام فارغ" (blah blah blah)، باتت المحادثات المناخية عقيمة وفاشلة. إذ سيطرت عليها الشركات والمصالح الخاصّة التي تروج لحلول وهمية هدفها الربح، مثل أفكار تجارة الكربون وما يُسمى بـ "الصفر الصافي" و"الحلول المستندة إلى الطبيعة"، بدلاً من محاسبة الدول الصناعية والشركات متعدِّدة الجنسيات وإلزامها تقليل الانبعاثات الكربونية والتخلي عن الوقود الأحفوري.9

في عام 2023، ستكون دبي بالإمارات موقعًا لقمة كوب 28، وهي القمة الخامسة التي تقام في المنطقة العربيَّة منذ انطلاق المحادثات المناخية عام 1995. وسبق أنْ استضافت الدول العربيَّة قمم كوب 7 (2001) وكوب 22 (2016) في مراكش بالمغرب، وكوب 18 (2012) في الدوحة بقطر، وكوب 27 (2022) في شرم الشيخ بمصر. ويتزايد الشكُّ في السنوات الأخيرة، حول قدرة اتفاق الأمم المُتَّحدة الإطاري للتغيّر المناخي على التصدي لأشدّ التحديات التي تواجه البشرية، وذلك منذ تراجع اتفاق باريس 2015 عن الأهداف الملزمة التي أقرَّها اتفاق كيوتو (والتي كانت غير كافية على الإطلاق أصلاً)، والذي أطلق يدّ الدول أنْ تقرر بنفسها أهداف تقليص انبعاثاتها الكربونية. لا شكَّ أنَّ قمم المناخ لاقت رواجًا إعلاميًا هائلاً، لكنَّ – يا للأسف – دون إنجاز تغيّرات كبرى. فعلى سبيل المثال، توصلت قمة كوب 27 المنعقدة في شرم الشيخ في 2022، إلى اتفاق حول آلية دفع التعويضات عن الخسائر والأضرار، وأشاد الجميع بالاتفاق باعتباره خطوة مُهمَّة تُخضع الدول الثرية للمحاسبة على ما تسببت به من ضرر وتغيّر مناخي في الجنوب العالمي.10 إلا أنَّ الاتفاق – حسب منتقديه – افتقر لآليات تمويل وإنفاذ واضحة، ما زاد قلق المنتقدين بأنَّه في نفس طريق ومصير الوعود المُخلَفة (التي قُدِّمت لأول مرة في كوبنهاجن في 2009)، بتقديم 100 مليار دولار تمويل مناخي بحلول 2020. لم يتحقَّق ذلك الوعد أبدًا، مع اتخاذ المساعدات المذكورة صورة القروض عالية الفوائد بدلاً من المنح.11 فيما يخصُّ قمة كوب 28، تخوَّف النشطاء والمراقبون من تعيين الإمارات لسلطان الجابر، المدير التنفيذي لشركة أبو ظبي الوطنية للنفط لترأُس المحادثات، إذ يرمز إلى الالتزام العميق بالاستمرار في استخراج النفط، مهما كانت التكلفة، وهي السمة التي اتسمت بها المفاوضات حتى الآن.

تجتهد دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بشركاتها الوطنية للنفط والغاز، جنبًا إلى جنب مع شركات النفط الكبرى، للحفاظ على عملياتها، والتوسع والاستفادة من مخزونها من الوقود الأحفوري المتبقي. وتطمح مصر في عهد السيسي أنْ تصبح قوة طاقوية في المنطقة، إذ تعتزم تلبية احتياجات الاتحاد الأوروبي من الطَّاقة عبر تصدير فائض الكهرباء وتعبئة مصادر الطَّاقة المختلفة، مثل الغاز والنفط البَحَرِيَّين والطاقات المُتجدِّدة والهيدروجين، وهو طموح يتزامن مع الجهود الجارية للتطبيع السياسي والاقتصادي مع دولة إسرائيل الاستعماريَّة. يستغل النظام الجزائري بدوره ارتفاع أسعار النفط ويرى فرصة في بحث الاتحاد الأوروبي حثيثًا عن بدائل للغاز الروسي، لتوسيع عملياته وخططه المتعلقة بالوقود الأحفوري، وعلى نفس النهج تسير دول الخليج، مثل السَّعوديّة والإمارات وقطر. تتغنى الطبقاتُ الحاكمة في المنطقة عن حقبة "ما بعد النفط" لعقود، دون أنْ تتخذ الحكومات المتعاقبة إجراءات ملموسة نحو الانتقال إلى الطاقات المُتجدِّدة، مكتفية بإطلاق الخطط والمشاريع الضخمة وغير الواقعية، كمدينة نيوم المستقبلية الضخمة المقترحة والمثيرة للجدل في المملكة العربيَّة السَّعوديّة. تستغل تلك النخُب الحاكمة مؤتمرات الأطراف المتتالية كفرصة ذهبية للترويج لأجندة الغسيل الأخضر، وكذلك لجذب والاستيلاء على رؤوس الأموال والتمويلات لمشاريع الطَّاقة المختلفة والخطط "الخضراء" المزعومة.

أُثير جدل إبَّان استضافة مصر قمة كوب 27 في عام 2022، حين منعت وصول عدَّة مجموعات ومنظمات بيئيّة ونشطاء مناخ إلى مكان انعقاد القمة، ما جعل قمة كوب 27 من بين أكثر المؤتمرات في تاريخ القمم المناخية إقصاءً، إذ تقلصت فرص التفاعل والاحتجاج والنقاش والجدل والتواصل والتحالف والتخطيط والتحرك والتعبئة الضرورية للضغط على صناع القرار العالميين من أجل الوفاء بوعودهم وتعزيز الحلول الحقيقية للطوارئ المناخية الآخذة في التعقد يومًا بعد يوم. جاء اختيار مصر لاستضافة القمة في 2022 ثُمَّ الإمارات في 2023، دليلاً على أنَّ محادثات المناخ تسير في اتجاه غير ديمقراطي وإقصائي. كما أنَّ التصعيد الجيوسياسي الناجم عن الحرب في أوكرانيا، يعرقل التعاون بين القوى الكبرى، ويمنح عذرًا جديدًا للإدمان العالمي على الوقود الأحفوري. الحق أنّه ربما يكون المسمار الأخير في نعش محادثات التغيّر المناخي.

يعتمد بقاء الجنس البشري على ترك الوقود الأحفوري في باطن الأرض، وعلى التكيُّف مع المناخ المتغيّر بالفعل في مراحل الانتقال إلى طاقات متجددة ومعدلات مستدامة من استخدام الطَّاقة وتحولات اجتماعية أخرى. ستتكلف محاولة التكيُّف مليارات الدولارات، لأجل البحث عن موارد مائية جديدة وإعادة هيكلة الزراعة وتغيير المحاصيل وبناء حواجز بحرية (مصدات أمواج) لحماية اليابسة من التَّآكل وتغيير شكل وطبيعة المدن، والسعي إلى مصادر خضراء للطاقة بواسطة بناء البنية التحتية المنشودة والاستثمار في الوظائف الخضراء والتكنولوجيا الخضراء. ثَمَّة سؤال وجيه: في مصلحة مَنْ ستصُبُّ تلك التحوُّلات والانتقالات الطَّاقية؟ ومَنْ الذين سيحملون عبء وثمن الأزمة المُناخية والتعاملات التالية معها؟

نفس القوى وبنى السلطة الجشعة والمستبدة التي ساهمت في تغيّر المناخ هي نفسها التي تحدّد آليات الردّ عليه والتعامل معه، دون أنْ يغيب عنها هدفها الأساسي من حماية مصالحها وزيادة أرباحها. بينما تدَّعِي المؤسساتُ المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وحكومات الشمال العالمي ووكالاتها مثل هيئة المعونة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وهيئة المساعدات الإنمائية الألمانية، أنَّها تعكف على وضع تصورات عن الحاجة إلى الانتقال المناخي، فإنَّ رؤيتها تستند إلى انتقال رأسمالي يقوده الشركات في أغلب الأحيان، وليس انتقال تقوده مصلحة الشعوب. في حين تجد أصوات منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية في المنطقة العربيَّة صعوبة في إيصال رسالتها، عندما يتعلق الأمر بعواقب ذلك الانتقال وضرورة إيجاد بدائل عادلة وديمقراطية، فإنَّ المؤسسات والحكومات المذكورة أعلاه تتحدث بجرأة وبصوت مسموع، وتنظم الفعاليات وتنشر التقارير في دول المنطقة العربيَّة. تسلّط هذه الأطراف الضوء على أخطار الاحترار العالمي، بلْ وتطالب بتحركات عاجلة، بما في ذلك استخدام طاقة متجددة أكثر وإعداد خطط للتكيف، إلا أنَّ تحليلاتها للتغيّر المناخي والانتقال المنشود تبقى محدودة، بلْ وتهدد بإعادة إنتاج نفس أنماط سلب ونهب الموارد التي وسمت حقبة الوقود الأحفوري الحالية.

تدعم هذه الأطراف النافذة رؤية للمستقبل تقوم على خضوع الاقتصاد لمنطق ربح القطاع الخاص، والذي يشجع على خصخصة المياه والأرض والموارد والطَّاقة، بلْ وحتى الغلاف الجوي. تشهد المرحلة الأخيرة في هذه الدينامية شراكات بين القطاعين العام والخاص التي يتمُّ تنفيذها حاليًا في كل قطاع بالمنطقة العربيَّة، وتشمل قطاع الطاقات المُتجدِّدة. وليست محصورة في المنطقة، بلْ هي عالمية في مجال الانتقال الطَّاقي، حيث تسودُ سياساتُ خصخصة الطَّاقة وهيمنة الشركات، ولكنَّ آليات هذه العملية أكثر تقدُّمًا هنا، ولم تواجِه إلا المقاومة الضئيلة. والمغرب ماضٍ بفاعلية على هذا المسار. وفي تونس، يوجد دفع قوي نحو خصخصة قطاع الطَّاقة المُتجدِّدة وتوسيع نطاقها، مع منح محفزات هائلة للمستثمرين الأجانب لإنتاج الطَّاقة الخضراء في البلاد، بما يشمل إنتاجها لأغراض التصدير. القوانين التونسية (المعدلة في 2019) تسمح باستخدام الأراضي الزراعية في تنفيذ مشروعات الطَّاقة المُتجدِّدة في بلد يشهد اعتمادية غذائية حادة12 (كما أظهرت جائحة كوفيد، ثم مع كتابة هذه السطور، خلال استمرار الحرب في أوكرانيا).

في ظلّ تلك التطورات في المنطقة، نُسلَّط الضوء بالضرورة على أهمية طرح سؤال: "الطَّاقة لمَنْ؟ ولأجل مَنْ؟ ومَنْ المستفيدون مِنْ الانتقال الطَّاقي؟" إنَّ "الاقتصاد الأخضر" والرؤية الأكثر انتشارًا والمسماة "التنمية المستدامة" تُقدم من قبل المؤسسات المالية الدوليَّة والشركات والحكومات باعتبارها منظورًا جديدًا، لكنَّها في حقيقة الأمر استمرار لنفس منطق التراكم الرأسمالي والتسليع والتمييل (التعامل بمنطق مالي بحت)، بما في ذلك تطبيق كل هذا على الطبيعة ذاتها.

Illustration by Othman Selmi

شمال أفريقيا وغرب آسيا بصفتهما محورًا أساسيًا في رأس المال الأحفوري العالمي

ينبغي فهم منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا، أو الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في سياق السوق الرأسمالية العالمية الأوسع، وهي تتميز بالصعود المتزامن لمناطق جديدة للتراكم والنمو في بعض أنحاء العالم، والتراجع النسبي لمراكز السلطة المستقرة في أمريكا الشمالية وأوروبا. وتتمَّتع المنطقة بلعبها اليوم دورًا مهمًّا في حركة الشبكات العالمية الحديثة للتجارة والنقل والبُنى التحتية ورؤوس الأموال،13 وكذلك أهميتها في نظام الوقود الأحفوري العالمي من خلال دورها المحوري الذي تلعبه في الحفاظ على رأس المال الأحفوري عبر إنتاجها الوفير من النفط والغاز. في واقع الأمر، فإنَّ المنطقة هي المحور الأساسي لأسواق المحروقات العالمية، وحصّتها الإجمالية من إنتاج النفط بلغت 35% تقريبًا في 2021. تاريخيًّا،14 ساهمت تلك الإمدادات في التحول الكبير في نظام الطَّاقة العالمي خلال منتصف القرن العشرين، حين حلَّ النفط والغاز كوقود رئيسي للنقل العالمي والتصنيع والإنتاج الصناعي محلّ الفحم.15 وفي الآونة الأخيرة، كانت موارد الشرق الأوسط ضرورية لتلبية الطلب المتزايد على النفط والغاز مع صعود الصين، ما أدّى إلى تحول كبير في الاقتصاد السياسي العالمي على مدار العقدين الأخيرين، إذ تطورت الروابط والعلاقات بين الشرق الأوسط وشرق آسيا. وهذا يعني أنَّ منتجي النفط في الشرق الأوسط أصبحوا أبطالَ مسرح مناقشات التغيّر المناخي، وأيِّة انتقالات مستقبلية بعيدًا عن الوقود الأحفوري.16

يدفع الواقع التاريخي والسياسي والجيوفيزيائي للمنطقة العربيَّة، نحو اختلاف الآثار والحلول الخاصّة بالأزمة المناخية في المنطقة عن وضعها في أيَّة سياقات أخرى. منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، أُجبِرت المنطقة على الاندماج بالاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع التبعية، حين تدخلت القوى الاستعماريَّة والإمبريالية في المنطقة أو أجبرتها على قبول بناء اقتصاداتها بالأساس حول استخراج وتصدير الموارد – عادة ما تُقدَّم رخيصة في صورة خام – اقترانًا باستيراد السلع الصناعية عالية القيمة. ونتج عن ذلك نقل واسع النطاق للثروة إلى المراكز الإمبريالية، على حساب التنمية والنظم البيئيّة المحلِّيَة.17 تستمر تلك العلاقات غير المتوازنة، والتي يسمّيها البعض في وقتنا الحاضر، بمسمّى التبادل الاقتصادي/الإيكولوجي غير المتكافئ أو الإمبريالية الإيكولوجية،18 ما يجعل الدول العربيَّة تلعبُ دورَ مُصدر للموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والسلع الأساسية المعتمدة بشكل مكثف على المياه والأرض، مثل المحاصيل النقدية الناتجة عن الزراعة الكثيفة. يُزيد تجذُّر النمط الاقتصادي الاستخراجي التصديري من التبعية الغذائية والأزمة الإيكولوجية ويحافظ على علاقات هيمنة استعمارية وتراتبيات استعمارية جديدة.19 إلا أنَّه لا يجب النظر إلى المنطقة ككتلة واحدة متجانسة فيما يرتبط بهذا التحليل، بلْ يجب إدراك اللاتكافؤ واللامساواة العميقة في داخلها. وإذا نظرنا بشكل أعمق إلى دور الخليج الرئيسي20 في التشكيلة العالمية، كمنطقة شبه طرفية (semi-periphery)  – أو حتى قوة شبه إمبريالية (أو إمبريالية بالوكالة)،21 فليس الخليج – وفقط  أغنى من الدول العربيَّة المجاورة، إنَّما يشارك كذلك في الهيمنة على فائض القيمة ومصادرته على المستوى الإقليمي، مع تكرار إنتاج علاقات الاستغلال بين المركز والهامش وعلاقات التهميش والتراكم من خلال السلب. في هذا الإطار، تُظهِر أبحاث آدم هنية (أحد المؤلفين في هذا الملف) كيف كان التحرير الاقتصادي (اللبرلة) للشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة (عبر حزم إعادة الهيكلة الاقتصادية المختلفة في التسعينيات وعقد الألفية) مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتدويل رأس المال الخليجي في المنطقة بأكملها.22 يهيمنُ رأسُ المال الخليجي الآن على القطاعات الاقتصادية الأساسية في كثير من دول الجوار، بما يشمل قطاعات العقارات والتطوير العقاري، والصناعات الزراعية والاتصالات وتجارة التجزئة والنقل والعمل المصرِفي والأسواق المالية. لذلك وحين الحديث عن التصدي لتغيّر المناخ والتحول نحو الطاقات المُتجدِّدة بالمنطقة، تَبرزُ أسئلةٌ مُهمَّة: كيف ستكون العدالة المُناخية هنا؟ هلْ تشمل حرية الانتقال داخل المنطقة وفتح الحدود بين دولها ومع أوروبا؟ هل يعني دفع الدين المناخي والإنصاف والتعويض مِنْ قِبل الحكومات الغربية والشركات متعدِّدة الجنسيات والنخب المحلِّيَة الثرية على الصعيدين الوطني والإقليمي؟ هلْ يعني الانتقال بعيدًا عن النظام الرأسمالي؟ ما مصير موارد الوقود الأحفوري في المنطقة التي تستخرجها حاليًا شركات وطنية وأجنبية؟ مَنْ المسؤول والمسيطر على الطَّاقة المُتجدِّدة في المنطقة؟ ماذا يعني التكيُّف مع المناخ المتغيّر ومَنْ سيحدد آليات ذلك التكيُّف؟ ومَنْ الفاعلون الذين سيناضلون مِنْ أجل تغيير حقيقي وتحولات جذرية؟

تبذل الحكومات في أرجاء العالم جهودًا جادة وحثيثة لمواجهة تغيّر المناخ، إلا أنَّها غالبًا ما تتبع منظور "الأمن المناخي"،23 من تدعيم للدفاعات بمواجهة ارتفاع مستوى سطح البحر والحوادث المناخية المتطرفة، لكنَّ كثيرًا ما تُفعّل – أيضًا – إجراءاتها ضدَّ "تهديد" اللاجئين والنشطاء المناخيين، ورفض إعادة توزيع السلطة عالميًا. تُشكِّل هذه الطريقة الأمنية والعسكرية  للتعامل مع أزمة تغيّر المُناخ في الشرق الأوسط تحدِّيًا وتهديدًا محتملين لأجندة العدالة المناخية، نظرًا للدور الذي تلعبه المنطقة في التطور العالمي للتكنولوجيات والتقنيات والمبادئ الإكراهية والاستبدادية. لا يقتصر هذا الدور على صفتها أكبر سوق تصدير في العالم للأسلحة والمعدات العسكرية،24 وانخراطها النشِط في تجربة التقنيات الأمنية الجديدة، بما في ذلك الأشكال الحديثة للمراقبة والسيطرة على الشعوب. أشار العديدُ من الباحثين إلى الشبكات الدوليَّة المعقّدة الداعمة لتجارة السلاح وتجارة تقنيات المراقبة بالمنطقة، والتي تضمُّ كل ما يخصُّ الحرب على الإرهاب والعتاد العسكري والأدلة التدريبية والعمليات العابرة للحدود وقوات الشرطة وشركات الأمن الخاصّة وشركات الخدمات العسكرية. تتضافر كل هذه العوامل لتُحوِّلَ الشرق الأوسط إلى مركزٍ مهمٍّ لانتشار المعايير الجديدة للتعامل العسكري والأمني عالميًّا. كما أنَّ ديناميات الحرب في المنطقة في حدِّ ذاتها تتشكل إلى حدٍّ بعيدٍ انطلاقًا مِن هذه الصلات بالسياق العالمي، والتي تؤثر كذلك في طريقة دمج الجيوش في النظم السياسية الاقتصادية على المستويين الوطني والإقليمي، والتي تؤثر – أيضًا – في طريقة اندماج الجيوش في النظم السياسية الاقتصادية على المستويين الوطني والإقليمي.25

يتحتَّمُ علينا التعامل مع قضايا التغيّر المناخي مِنْ خلال منظور العدالة، لا منظور الأمن. فالتفكير في المستقبل مِنْ منظور "الأمن" يجعل نضالاتنا خاضعة لأطر مفاهيمية وتخيّلية تنتهي إلى تمكين قوى الدولة القمعية، مع فرض المنطق الأمني والعسكري على الاستجابة لتغيّر المناخ، فلنْ يحلَّ الأزمة المناخية المزيدُ من الدبابات والبنادق، وجدران أعلى، وحدود أكثر "عسكرة"، إنَّما ستزيد الأزمة تعقيدًا، إذ ستُمكّن الأغنياء مِن البقاء في أوضاع مريحة مع تحويل كُلفة التغيّر المُناخي إلى باقي العالم. علينا أنْ نقاطع بشكل نهائي نظام الاستغلال الرأسمالي للناس والكوكب، الذي تسبب في الأزمة المناخية، لا أنْ نُمكّن هذا النظام بتسليحه وتثبيت وجوده.

النظرة الاستعماريَّة والاستشراق البيئي

مثلما أضعف الإخضاع الاقتصادي والهيمنة الإمبريالية استقلال المنطقة العربيَّة سياسيًّا واقتصاديًا، فإنَّ إنتاج المعرفة عن الشعوب العربيَّة وتمثيلاتها وبيئاتها يُستخدم – أيضًا – من قبل القوى الاستعماريَّة لتبرير مشروعها الكولونيالي وأهدافها الإمبريالية. حاليًا؛ تتواصل استراتيجيات الهيمنة تلك، حيث تُشكَّل (مجددًا) صورًا وتصوراتٍ حول دول المنطقة كأشياء ستُنَّمى (باستدامة أو بدون)، بما يعزّزُ مرة أخرى أفكار "رسالة التحضر الأوروبية" من العهود الكولونيالية.

يرفض المؤرخ والفيلسوف المغربي عبد الله العروي السرديات التاريخية الفرنسية الكولونيالية حول "التخلف التاريخي" المزعوم و"حالة التجمد في الزمن" للبربر/الأمازيغ، والعرب والمسلمين وحضاراتهم. إنَّ واقع الشعوب الأصلية في المنطقة المغاربية بتنوعاته (السياسية والاقتصادية والثقافية والبيئيّة، إلخ) وفي مختلف المراحل التاريخية، تَعرّضَ للتشويه عمدًا للدفع بسردية مُنتحلة واختزالية تخدم أجندة كولونيالية للإخضاع والهيمنة والتوسع الاستعماري.26 تؤكد هذه الفكرة الجغرافية الأمريكية ديانا كيه ديفيز، التي تحاجج أنَّ التخييلات البيئيّة الأنجلو-أوروبية خلال القرن التاسع عشر قدَّمت البيئة بالعالم العربي في معظمه بصفتها "غريبة ومختلفة وفانتازيّة وغير طبيعية، ومتدهورة كثيرًا بشكل مِن الأشكال". اعتمدت ديفيز مفهوم "الاستشراق"27 الذي صكَّه إدوارد سعيد، واستخدمته بدقة ومهارة كإطار نظري لتفسير التمثيلات الغربية المبكرة للبيئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باعتبارها مِن أشكال "الاستشراق البيئي". تمَّ سرد البيئة مِن قِبل مَن أصبحوا سلطة استعمارية مَنْ بالأساس مِن بريطانيا وفرنسا – بصفتها "غريبة وناقصة"، مقارنة بالبيئة الأوروبية "الطبيعية والمثمرة"، ما يوجب تدخل ما "مِن أجل تحسين واستعادة وتطبيع وإصلاح" هذه البيئة.28

استندت السلطات الاستعماريَّة إلى ذلك التمثيل/التجسيد الكاذب للتدهور البيئي والكارثة البيئيّة المزعومين لتبرير كافة أشكال السلب التي أقدمت عليها، إضافة إلى السياسات التي اعتمدتها للهيمنة على شعوب المنطقة وعلى بيئتهم الطبيعية. في شمال أفريقيا (وفي المشرق لاحقًا)، ابتنى الاستعمار الفرنسي سردية بيئيّة تضمَّنت مفردات التحلل والتفسخ والتدهور مِن أجل تنفيذ "تغيّرات دراماتيكية، اقتصادية واجتماعية وسياسية وبيئيّة".29 وانطلاقًا مِن هذا المنظور، كان السكان المحلّيون وبيئاتهم في حاجة مشتركة إلى عناية الرجل الأبيض ونعمة "رسالة التحضر الأوروبية".

تنبثقُ السرديَّات مِن ظرفها وسياقها التاريخي، وهي ليست بريئة مِن المقاصد أبدًا، ولذلك يجب على المرء أنْ يسأل: مَنْ المستفيد مِن إنتاج المعرفة والتمثيلات والسرديات؟ يبدو التمثيل الحالي لصحراء شمال أفريقيا مثالاً عصريًّا واضحًا، إذ عادة ما توصف بأنَّها أرض فسيحة وشاغرة وميتة ونادرةُ السكان، وبالتالي تبدو وكأنَّها فرصة مثالية لتقديم الطَّاقة الرخيصة لأوروبا الحريصة على نمط حياتها الاستهلاكي الباذخ  واستهلاك الطَّاقة المفرط. هذه السردية الكاذبة تتجاوز أسئلة الملكِيَّة والسّيادة، ومتستّرة على علاقات الهيمنة التي تُمكِّن مِنْ نهب الموارد وخصخصة المشاع وسلب المجتمعات. كما هو الحال في مناطق مختلفة حيث حياة الناس وسُبل معاشهم خفيّة أو "مخفيّة"30 لصالح الدول المُستعمِرة، "لا توجد أراضٍ خالية" في شمال أفريقيا.31 حتى في الأراضي قليلة السكان، فإنَّ البيئات التقليدية والأراضي لا تزال مغروسة في القلب ومرتبطة بثقافات ومجتمعات قائمة، ومِن الواجب احترام حقوق الناس وسيادتهم في سياق أيّ تحول اجتماعي-إيكولوجي.

مِن الأهمية بمكان دراسة الآليات التي تتمُّ مِن خلالها "نزع إنسانية" الآخر، وكيف تُستغل سلطة التمثيل وبناء التخيلات حوله (وحول بيئته) في تعزيز بُنَى السلطة والهيمنة والسلب. في هذا السياق، ما يُسمى مِن منظور "الاستشراق" التحليلي بأنَّه "اللامبالاة بالإنسانية واختزالها ونزع الطابع الإنساني عنها" في الثقافات الأخرى أو لدى الشعوب أو المناطق الجغرافية الأخرى، لا يزال مستمرًا في تبرير العنف الموجه ضدّ الآخر وضدّ الطبيعة. يظهر هذا العنف في تهجير السكان والاستيلاء على أراضيهم ومواردهم، وإلزامهم بدفع الكُلفة الاجتماعية والبيئيّة للمشروعات الاستخراجية ومشروعات الطَّاقة المُتجدِّدة، مع قصف الشعوب وارتكاب المذابح بحقها وترك المهاجرين يغرقون في البحار وتدمير الكوكب تحت اسم التقدم. تناولت ناعومي كلاين هذه المسألة ببلاغة وإقناع في محاضرتها عام 2016 في ذكرى إدوارد سعيد،32 إبّان وصفها لثقافة البِيض الاستعلائية والعنصرية التي تتجلى بوضوح في أجزاء مِن أوروبا والولايات المُتَّحدة: إنَّ الثقافة التي تقلل مِن قيمة حياة السّود وداكني البشرة، وتكون مستعدَّة للسماح للبشر بالاختفاء تحت الأمواج العالية، أو حرق أنفسهم في مراكز الاحتجاز، مستعدَّة – كذلك – للسماح للبلدان التي يعيش فيها السود والسُّمر بالغرق تحت الأمواج، وأنْ تحرقهم الحرارة العالية. "مثل هذه الثقافة" لن تُبالي عندما تضع عبء التكاليف الاجتماعية والبيئيّة الكارثية على عاتق الفقراء في هذه البلدان.

إنَّ مواجهة وتفكيك الاستشراق والسرديّة البيئيّة النيوكولونيالية حول المنطقة العربيَّة سوف تسمح وتتطلب بناء رؤى بحراك جماعي ضدّ آثار التغيّر المناخي، ولأجل العدالة البيئيّة والتحول الاجتماعي-الإيكولوجي الضَّاربة جذوره في تجارب وتحليلات ورؤى مناطق أفريقيا والعالم العربي وغيرها مِن المناطق.

Illustration by Othman Selmi

ما "الانتقال العادل"؟

كما ذكرنا أعلاه، فالمناقشات حول التحركات والأعمال لمواجهة تغيّر المناخ كانت في الغالب ضيقة المنظور وتكنوقراطية، نيوليبرالية وقائمة على اقتصاد السوق، إذ تقدم حلولاً تأتي دومًا مِن أعلى لأسفل، وتركز بشكل ضمني على الحفاظ على البُنى العنصرية والإمبريالية والأبوية للرأسمالية. في هذا السياق مِن المقترحات التي تتجاهل في أحسن الأحوال إلى حدٍّ بعيد أسئلة السلطة والعدالة، ظهر مفهوم "الانتقال العادل" كإطار عمل يضع العدالة في قلب النقاش. يعترف هذا النهج، وحسب قول إدواردو غاليانو، أنَّ: "حقوق البشر وحقوق الطبيعة هما مسميان لنفس الكرامة".33 مِنْ أين انبعثت فكرة الانتقال العادل؟ وما الذي يمكنها تقديمه لمشروع إعداد رؤى تعمل مِن أسفل لأعلى وتقاوم الإمبريالية مِن أجل الخلاص البشري والتحرك على ملف المناخ في سياق المنطقة العربيَّة؟ يمكن تتبع أصول مفهوم الانتقال العادل إلى الولايات المُتَّحدة في السبعينيات مِن القرن العشرين، عندما ظهرت تحالفات جديدة غير مسبوقة بين النقابات العمالية وحركات العدالة البيئيّة والعدالة للشعوب الأصلية، للنضال مِن أجل العدالة البيئيّة في سياق مواجهة الصناعات الملوثة للبيئة. لمواجهة القوانين البيئيّة التي كانت تُطبق حديثًا أو تمَّ تشديد نصوصها خلال ذلك العقد، ادّعت الشركات أنَّ السياسات الحامية للبيئة تُجبرها على فصل عدد كبير مِن العمال. رفضت وأدركت النقابات والمجتمعات محاولة "فرّق تسُد" تلك، وأعلنت أنَّ العمال والمجتمعات – خاصة السود وغير البيض الآخرين ومجتمعات الشعوب الأصلية الذين عانوا (ولا يزالون متضررين) أكثر مِن غيرهم جراء الصناعات الملوثة للبيئة – تجمعهم مصلحة مشتركة تتمثّل في حقّهم في بيئة مناسبة للحياة وعمل كريم وآمن بأجور عادلة.

على مدار العقود اللاحقة، جرى اعتماد واستكشاف وشرح وتفسير مفهوم الانتقال العادل، مِن قِبل مجموعات متنوعة، تركزت بداية الأمر في الولايات المُتَّحدة وكندا، ثُمَّ انتشر النقاش إلى مجموعات في جميع أنحاء العالم، خاصة في أمريكا الجنوبية وجنوب أفريقيا. قامت الحركات العمالية وحركات العدالة البيئيّة – بالتشارك مع الشعوب الأصلية والحركات النسوية والشباب والطلاب ومجموعات أخرى – ببناء تحالفات ورؤى مشتركة عن ماهية الانتقال العادل: تقديم حلول قادرة على إبداع تحولات جذرية في ملف الأزمة المناخية، بما يشمل التصدي للأسباب الجذرية، مع إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان ومواجهة التدهور الإيكولوجي وسيادة الشعوب.

ومع ازدياد شعبية وانتشار إطار العمل هذا، زادت الشركات والحكومات مِن محاولاتها لترويج رؤى "الانتقال العادل" الخاصّة بها، وجاءت تلك المحاولات مفتقرة للتحليل الطبقي، مع إنكار الحاجة إلى تحولات جذرية. بذكر اتفاق باريس في ديباجته مفهوم "الانتقال العادل" – وهو ما يُعدُّ انتصارًا حققته الحركات العمالية وحركات العدالة المناخية العالمية بصعوبة بالغة – اشتدت وتيرة هذا الاحتواء للمفهوم وتخفيف مغزاه السياسي القوي. الآن، لم يَعُدْ "الانتقال العادل" مفهومًا واحدًا، حيث أصبح واقعًا في حقل مِن النّزاع حوله، في مساحة تشهد الخلاف والنضال حول الحلول المطلوبة والممكنة للأزمة المناخية. لا يعني المصطلح بالضرورة سياسات تقدمية مُخلِّصة للبشر، إذ تستخدمه الكثير مِن الأطراف لوصف والدفاع عن مقترحات لا تزيد على كونها "استمرار الحال على ما هو عليه"، أو على مسار تكثيف النمط الاستخراجي "الأخضر". مع ذلك، وبخلاف الخطابة حول "التنمية المستدامة" أو "الاقتصاد الأخضر"، فإنَّ مفهوم الانتقال العادل يوفر مساحة يمكن للحركات استغلالها للتأكيد على ضرورة سموّ العدالة في جميع الحلول المناخية المقترحة. ورغم محاولات "الاحتواء" ونزع الحدّة السياسية مِن المفهوم، فإنَّ مركزية "العدالة" في المصطلح – في حدٍّ ذاتها  تُمثِّلُ نقطة قوة تحافظ على جذرية المفهوم.

مقترحات الانتقال العادل التي تقدمها الحركات الاجتماعية التقدمية مدفوعة بقناعة أنَّ الناس الذين يتحملون أعلى كلفة للنظام الحالي، يجب ألا يصبحوا هُمْ مَنْ سيدفعون كلفة الانتقال إلى مجتمع مستدام، بلْ يجب أنْ تكون تلك الفئات مشاركة وفاعلة في صدارة الأطراف التي ستشكل مسار هذا الانتقال. تسعى هذه الحركات إلى استكشاف ودراسة جوانب مختلفة مِن هذه المسألة، سعيًا لتقييم وفهم تكاليف النظام القائم وإمكانات الانتقال، والنفقات المحتملة للبدائل الممكنة. تقدّم هذه الحركات رؤى متنوعة لها منظورها الخاص سواء أكانت نسوية أو خاصة بالشعوب الأصلية، أو إقليمية وقُطرية، وتطرح تصوراتها  الخاصّة لمفهوميّ "العدالة" و"الانتقال" في سياقاتها المتنوعة.34

في عام 2019، اجتمعت حركات معنيّة بالعدالة البيئيّة وحقوق العمال مِن ثلاث قارات في أمستردام، وجاء على جدول أعمال ذلك الاجتماع التوصّل إلى مبادئ أساسية للانتقال العادل: (1) الانتقال العادل مختلف حسب الأماكن، (2) الانتقال العادل سؤال طبقي، (3) الانتقال العادل سؤال جندري، (4) الانتقال العادل إطار عمل معادٍ للعنصرية، (5) الانتقال العادل لا يخصّ فقط مسائل المناخ، (6) الانتقال العادل مرتبط بالديمقراطية.35

تفاديًا للادِّعاء بأنَّه تعريف جامع مانع أو مجموعة نهائية ومستقرة مِن المبادئ الدائمة، فإنَّ هذا التحليل يرسم الملامح العامة لموقف يعترف بأنَّ المناقشات حول الانتقال العادل عليها الاستجابة لواقع التنمية غير المتكافئة الذي تسببت فيه الإمبريالية الكولونيالية، وأنَّ الانتقال العادل عليه أنْ يشمل تحولات جذرية تزيد مِن نفوذ "الناس العاملين" على تنوعهم (انظر أدناه) ويقلل مِن نفوذ النخب الرأسمالية والسياسية، مع الإقرار بأنَّ المشكلات البيئيّة لا يمكن مجابهتها دون التصدي للبُنَى العنصرية والذكورية وغيرها مِن البُنَى القمعية للاقتصاد الرأسمالي، وأنَّ الأزمة البيئيّة تتجاوز كونها أزمة مناخية، إذ تشمل فقدان المواطن البيئيّة والتنوع الحيوي، والانهيار الجذري للعلاقات البشرية مع "العالم الطبيعي"، وأنَّه  وبدون تحولات في السلطة السياسية والاقتصادية نحو المزيد مِن الديمقراطية، لا يمكن تحقيق الانتقال العادل.

تأتي نقطة القوة الثانية المُهمَّة لمفهوم الانتقال العادل، بالنظر إلى تاريخه كأداة أو إطار يساعد على توحيد الحركات المتنوعة وتجاوز الانشقاقات الكثيرة القائمة والمحتملة. كما ذكرنا أعلاه، فقد انبثق المفهوم في الأصل للتعامل مع استراتيجيات "فرّق تسد" التي تسلحت بها الشركات المقاومة لتشديد التشريعات البيئيّة، ولا تزال قائمة ومستمرة، إلى جانب دفع الشركات بسياسات تحمي أرباحها دون اعتبار للآثار الوخيمة التي تتحملها المجتمعات والعمال والكوكب، وإزكاء الصراعات بين مختلف المناطق والفئات العاملة، وتحريضهم ضد بعضهم البعض.
تُقرُّ الحركات الدوليَّة التي تنادي بالعدالة المناخية، والتحالفات القُطرية والإقليمية والتحالفات المحلِّيَة في شتى أنحاء العالم، أنَّ وجود بيئة مزدهرة وحية أمرٌ يمكن للجميع الاستفادة مِنه، وأنَّ المعاناة تتسع حين تتركز الثروة والسلطة في يدِّ نخبٍ ضئيلة مستفيدة مِن حماية نفسها مِن أسوأ آثار الأزمة المناخية. إلا أنَّ بناء حملات ورؤى مشتركة وغرس الثقة والتضامن وتطوير الكفاح مِن أجل مقترحات مشتركة، هي عملية بطيئة ومليئة بالتحديات سياسيًّا، وإنْ كانت ضرورية، إذ أنَّ أيّ محاولة التفاف بـ"طرق مختصرة" حول هذه العملية، يعني تجاهلاً لكون العدالة جوهر الانتقال العادل، وأنَّ الخبرات المتراكمة مِن عمل وحملات حول العالم ترشدنا وتوجهنا في هذا الطريق الصعب والشَّائك. 

وُلِدَ مفهوم الانتقال العادل جزئيًّا مِن رحم الحركات العمالية، لذا فمسألة العمل اللائق تبقى عنصرًا أساسيًا في مختلف المقترحات الساعية لأجل تحقيق الانتقال العادل. يمثلُ ذلك أهمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذ وبحسب الكونفدرالية الدوليَّة للنقابات العمالية، يعاني العمالُ مِن انتهاكات ممنهجة ومستمرّة لحقوقهم على امتداد المنطقة.36 فهناك الملايين مِنَ العمال الوافدين المهاجرين مِنْ بلدان أخرى داخل وخارج المنطقة، وفي دول الخليج – على سبيل المثال – يُشكّل العمال مِنْ غير المواطنين (عمال مهاجرون) أكثر مِنْ نصف قوة العمل، وعددهم يفوق أيَّة منطقة أخرى بالجنوب العالمي.37 وفي نفس الوقت وعبر المنطقة العربيَّة، تتجاوز معدّلات بطالة الشباب ضعف المعدل العالمي38 ويكابد ثُلثي العمال في شمال أفريقيا في القطاع غير الرسمي.39

في هذا السياق، ما المقصود بالعمل اللائق؟ وكيف يمكننا فهم وإدراك الناس العاملة؟ بإلهام مِن التعبئة السياسية للناس العاملة التي قام بها المناضل السياسي والمؤرخ الغياني والتر رودني، حاجج الباحث التنزاني عيسى شيفجي بأنّ:

"التراكم البدائي في ظل النيوليبرالية، يتخذ أشكالاً جديدة ويصبح مُعمَّما أكثر في مختلف القطاعات الاقتصادية، بما يشمل ما يُسمّى بالاقتصاد غير الرسمي. المُنتِج يستغل نفسه/نفسها حتى يظل على قيد الحياة، مُعزِّزا في الوقت نفسه لرأس المال".40

بناء على هذا، يرى شيفجي حاجتنا إلى رؤية جديدة للناس العاملة تعترف بالاستغلال الشائع الذي يعاني منه العمال المنظَّمون في الصناعات، وغير الرسميين، والعرضيون والمؤقتون والمهاجرون؛ وكذلك العمال غير مدفوعي الأجر أو المتقاضون رواتب منخفضة (عادة النساء) ممن يقومون بأعمال منزلية وأعمال رعاية وأعمال إعادة الإنتاج الاجتماعي، والعاملون لحسابهم الخاص أو صغار المزارعين، والرعاة والصيادون الذين يكدحون لضمان البقاء على قيد الحياة.

في الوقت الحالي، البشرية عمومًا – باختلاف نوع عملها – تضحّي بجزء مِن وقتها الأساسي للاستهلاك اليومي وبعض حقوقها الإنسانية وكرامتها، في سبيل الاستمرار في تدعيم الأرباح الهائلة للشركات متعدِّدة الجنسيات. تبدو النتائج متماثلة، فيما يتعلق بغذائهم أو صحتهم أو نظم الطَّاقة والرعاية التي خضعت لخصخصتها، أو بتحميل عبء الرعاية كاملاً على الأسرة، وذلك لأنَّهم خسروا أو هم عرضة لفقدان أراضيهم التقليدية ومناطق الصيد، أو لصعوبة العثور على عمل مضطرين للكفاح مِن أجل تلبية الاحتياجات في الاقتصاد غير الرسمي، إذ يفتقرون للأدوات السياسية اللازمة للمطالبة بأجور معيشية. ليس مِن قبيل الصدفة أنَّ هذه الأغلبية المُستَغَلّة والمعرّضة للعمل غير المستقر،  تُمثّل الفئة الأكثر عرضة لمخاطر التغيّر المناخي، والأقلّ قدرة على حماية نفسها مِن آثاره.

إذن؛ بالاقتران مع مفهوم الانتقال العادل، يمكننا استخدام هذا التعريف لـ "الناس العاملة" أثناء إعداد رؤيتنا حول مَنْ له حقّ الكلمة فيما يخصُّ الانتقال الطَّاقي، والتعامل مع الأزمة المناخية بشكل عام. يُمثّل المفهومان – معًا – المهاد والمبدأ للعدالة في العمل المناخي، والخطوات العملية التي نحتاجها لتحقيق الانتقال العادل في مختلف السياقات. هذه الأسئلة هي ما يحاول أنْ يجيب عليها هذا الملف، مقدِّمًا الإجابات عبر رؤى متنوعة مِنْ منظور مختلف شرائح الناس العاملة عبر المنطقة العربيَّة، ومِنْ خلال تسليط الضوء على فرص بناء التحالفات والائتلافات.

لماذا هذا الملف؟ ولماذا الآن؟

تفرض المؤسسات النيوليبرالية الدوليَّة – بشكل عام – رؤاها على كثير مِن الكتابات المتعلقة بالتغيّر المناخي والأزمة الإيكولوجية والانتقال الطَّاقي في المنطقة العربيَّة بحيث تعيد إنتاج سياساتها. تنحاز التحليلات التي تقدمها تلك المؤسسات لذوي السلطة والمال وتتجاهل أسئلة الطبقة والعرق والجندر والعدل والسلطة أو التاريخ الكولونيالي. وتستند حلولها المقترحة ووصفاتها للمشاكل إلى السوق، وتأتي مِنْ أعلى لأسفل، ولا تتصدى للأسباب الجذرية لأزمات المناخ والبيئة والغذاء والطَّاقة، ما يجعل المعرفة التي تنتجها تلك المؤسسات – وبشكل عميق – تُضعف حيوية المجتمع ولا تُمكِّنه مِنْ مواجهة الأزمات، بلْ وتغضُّ الطرف عن أسئلة القمع والمقاومة، مانحةً الأولوية لآراء "الخبراء"، على حساب الأصوات "القادمة مِن أسفل".

يسعى هذا الملف إلى تقديم رؤية بديلة للانتقال الطَّاقي في المنطقة العربيَّة، مِن منظور عادل ومنصف، أملاً في إصلاح تلك الأوضاع. ويضُم بين دُفتيه مجموعة مِن المقالات لكاتبات وكتّاب مِن مختلف دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، تتناول بالبحث جوانب متعدِّدة مِن الانتقال الطَّاقي وشروط نجاحه. وتغطي الفصول جملة عريضة مِن الدول: المغرب والصحراء الغربية والجزائر حتى تونس ومصر والسودان، ومِن الأردن وفلسطين حتى الإمارات والسَّعوديّة وقطر. كما يضمُّ الملف إسهامات إقليمية عن الانتقالات الزراعية والهرولة النيوكولونيالية وراء مختلف مصادر الطَّاقة (التي تشمل الهيدروجين الأخضر كذلك) في شمال أفريقيا، فضلاً عن التحديات والتناقضات الخاصّة بالانتقال الطَّاقي في الخليج.

حتّى الآن، لم تظهر كتابات وافية ومتاحة للجمهور  بأقلام باحثين أو نشطاء ناقدين مِن شمال أفريقيا والشرق الأوسط، تناقشُ الانتقال الطَّاقي العادل، باللغات العربيَّة أو الإنجليزية أو الفرنسية، سواء في صورة كتاب أو موارد متوفرة عبر الإنترنت. بينما تكتسب الكتب – المُهمَّة – عن الصفقات الخضراء الجديدة41 والانتقال الطَّاقي المنشود اهتمامًا متزايدًا، فإنَّ كتابات المؤلفين الناقدين مِن الجنوب العالمي، خاصة مِن المنطقة العربيَّة. نظرًا لضرورة مواجهة المركزية الأوروبية والحاجة إلى نهج واعٍ بالتحليل الطبقي في التعامل مع تخفيف آثار والتكيُّف مع التغيّر المناخي (مع ضرورة التحول العاجل نحو الطاقات المُتجدِّدة)، وأهمية التحدي والتفكير الناقد في دور الحكومات والنخب بالمنطقة فيما يخصّ تثبيت نظام الطَّاقة الأحفورية الراهن، فنحن إذن بصدد فجوة هائلة تحتاج إلى ملء.

ينطلق هذا الملف بوضوح مِن منظور "العدالة" وينتقد فاضحًا السياسات والممارسات التي تحمي والنخب السياسية والشركات متعدِّدة الجنسيات والنظم السلطوية والعسكرية. كما يهدف إلى كشف ودعم عمليات إنتاج المعرفة والمقاومة لسلب الأرض/الموارد والأجندات النيوكولونيالية، سعيًّا للوصول إلى الاستدامة القادرة على إحداث تحولات جذرية، بالبناء مِن أسفل لأعلى، ومعتمدًا على فكرة أنَّ هذا النهج هو الأكثر قدرة على التعامل مع الأزمات البيئيّة والغذائية والطَّاقية والاجتماعية.

على حدِّ علمنا، فهذه هي أول مجموعة مِن المقالات تتصدى بشكل مباشر لمسألة الانتقال الطَّاقي في المنطقة العربيَّة، باستخدام عدسة العدالة وإطار عمل الانتقال. يهدف هذا الملف إلى إثراء المناقشات العالمية الدائرة حول التحرك لمواجهة تغيّر المناخ، والانتقال العادل بشكل أوسع، مِن خلال طرح الأسئلة واستكشاف ما تعنيه هذه العمليات في السياقات الخاصّة لمختلف دول المنطقة العربيَّة، التي تتسم بما يلي: (أ) نظم سلطوية، (ب) اقتصادات مصدِّرة للنفط ومعتمدة على هذا التصدير، (ج) إرث استعماري وإمبريالي، (د) مصادر هائلة محتملة للطاقة الخضراء. لأنَّ الانتقال العادل يعني حدوث تحولات على مستوى عالمي، وبما أنَّ المنطقة العربيَّة نقطة مُهمَّة في هذا التغيير، فإنَّنا نؤكد على أهمية هذا الملف عالميًّا وإقليميًّا.

يهدف مشروع الملف إلى:

  • الدفع بتحليل أعمق لموقعنا الحالي مِن حيث الانتقال الطَّاقي في المنطقة العربيَّة. وهو أمر مهم لأنَّ التعرف الأفضل إلى الوضع الراهن والأطراف الضالعة والفائزين والخاسرين المحتمَلين، ضروري جدًا لأيّ جهود تهدف إلى إحداث انتقال عادل.
  • التركيز على النقد على مستوى البُنى والمؤسسات في نقاشات الانتقال "الأخضر"، مِن خلال جعل أصوات النشطاء والباحثين والكُتاب مِن المنطقة العربيَّة في صميم النقاش.
  • تسليط الضوء على خطورة الأزمة المناخية وإلحاحها في المنطقة العربيَّة، ومقاومة تجذر الاستخراجية والكولونيالية الطَّاقية، مع إبراز الحاجة إلى تحليلات متكاملة وشاملة وتغيّرات هيكلية كبرى.
  • مناهضة الخطابات النيوليبرالية/النيوكولونيالية المهيمنة فيما يتعلق بـ الانتقال "الأخضر"، والتي يدعمها الكثير مِن الأطراف الدوليَّة في المنطقة ويروّجون لها.
  • تجاوز الخطاب "الأمني"، إذ يتجنب الملف المَطالِب المؤطَّرة حول "الأمن"، مثل الأمن المناخي والأمن الغذائي والأمن الطَّاقي، في حين يدعم مفاهيم مثل العدالة والسيادة وإنهاء الاستعمار ويؤكد عليها.
  • دعم القوى/الحركات/المجموعات الشعبية التقدمية في المنطقة العربيَّة بشكل أوسع وأعمق، على مسار وضع تصور استجابة محلي وديمقراطي وعام (مرتبط بالناس) في مواجهة الانتقال الطَّاقي المطلوب بشدّة، مع دعم التحليلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبقية والبيئيّة ذات الصلة.
Illustration by Othman Selmi

ملخص أوراق الملف

يحلل حمزة حموشان كيف تهدف مشروعات تصميم وهندسة الطَّاقة المُتجدِّدة إلى تقديم التغيّر المناخي بصفته مشكلة واحدة شاملة لجميع مناطق الكوكب، دون طرح تساؤلات حول الرأسمالية والنموذج الإنتاجوي (الإنتاج للإنتاج) في قطاع الطَّاقة، أو النظر إلى المسؤوليات التاريخية للغرب المُتقدِّم صناعيًّا. يقول إنَّ ذلك يُترجَم عادة في منطقة شمال أفريقيا إلى ما يمكن وصفه بـ "الكولونيالية الخضراء"، أكثر مِن كونه سعيًا للبحث عن انتقال طاقي يخدم الناس العاملة. في الورقة، يناقش المؤلف مثال الهرولة وراء الهيدروجين الأخضر ويحاجج بأنَّ تلك المشاريع وأمثالها ليست إلا مخططات استعمارية للنهب والاستلاب.

في دراستهم، قام كل مِن جوانا ألان وحمزة الخال ومحمود لمعضل بإبراز كيفية عمل النمط الاستخراجي حاليًا في الجزء المحتل مِن قِبل المغرب بمنطقة الصحراء الغربية، بالإشارة إلى تطورات الطَّاقة المُتجدِّدة، إذ يُحتفى بالمغرب بشكل عام على الساحة الدوليَّة لقاء التزاماته بما يُسمى "الانتقال الطَّاقي الأخضر". يطرح الباحثون قصة مختلفة تركز على أصوات السكان الصحراويين ويقولون إنَّ مشروعات الطَّاقة المُتجدِّدة في الصحراء الغربية – ببساطة – تدعم و"تغسل" سمعة الكولونيالية بيئيًّا (الغسيل الأخضر)، وتحُدُّ مِن فُرص تحقيق الانتقال العادل وما له مِن فوائد للمجتمعات المحلِّيَة.

في الورقة التالية، تسلط منال شقير الضوء على التطبيع – البيئي العربي مع دولة إسرائيل. وتجادل وتحلل عبر مفهوم التطبيع البيئي استخدام "الفكر البيئي" للغسيل الأخضر والتطبيع للقمع الإسرائيلي، وتفضح الظلم البيئي الناجم عن تلك العملية في المنطقة العربيَّة وخارجها. وتحقق المؤلفة في دور التطبيع البيئي كمقوض للكفاح الفلسطيني ضدّ الاستعمار وعرقلة الانتقال الزراعي والطَّاقي العادل في فلسطين، وهي المسألة وثيقة الارتباط بالكفاح الفلسطيني مِن أجل تقرير المصير. وتقدم المؤلفة مفهوم "الصمود البيئي" في وجه القمع الإسرائيلي، ودوره في مناهضة الغسيل الأخضر للتطبيع البيئي.

وتُظهر كارين ريجنال كيف تُعَدُّ الطَّاقة الشمسيَّة متجذرة في تاريخ طويل مِن النمط الاستخراجي في المغرب، وتكشف عن نقاط تماس مذهلة بين سلاسل سلع الوقود الأحفوري وتلك الخاصّة بالطاقات المُتجدِّدة في المملكة. تثير هذه "الاستمراريات" تساؤلات حول كيف يمكن العمل باتجاه الانتقال العادل، في المغرب ومثلها مِن دول العالم المختلفة التي تشهد صعودًا متسارعًا في مشروعات الطَّاقة المُتجدِّدة، عادة في مناطق لها تاريخ طويل مِن التنقيب والاستخراج للمعادن. تطرح تساؤلات حول سُبل المطالبة بأشكال جديدة مِن الطَّاقة مع وقف بعض أوجه اللامساواة الاقتصادية والسياسية التي تغذيها رأسمالية الوقود الأحفوري.

في ورقته عن الانتقال الزراعي العادل المنشود في شمال أفريقيا، يقول صقر النور إنَّ دول المنطقة تتعرض لتبادل غير متكافئ مع الشمال العالمي، وخاصة مع الاتحاد الأوروبي، عبر اتفاقات تجارة تسمح للشمال بالحصول على منتجات شمال أفريقيا الزراعية بأسعار مخفضة. ويرى أنَّ شمال أفريقيا في حاجة ماسة إلى إصلاح سياساته الزراعية والبيئيّة والغذائية والطَّاقية. وبشكل مُقنع، يقدم بدائل تركز على المستوى المحلّي ويمكنها أنْ تزدهر محليًا، بصورة مستقلة عن المصالح الأوروبية.

يشرح محمد صلاح ورزاز بشير في مساهمتهما عن أزمة الكهرباء في السودان، كيف تطور قطاع الطَّاقة في البلاد منذ العهد الاستعماري، وينسبان تطوره إلى التطور غير المتوازن للسياسات مِن تلك الفترة واستمراريته في مرحلة ما بعد الاستعمار. كما يقيّمان الكلفة الاجتماعية-الاقتصادية والبيئيّة للمشروعات الهيدرو-كهربائية (السدود) في السودان، إذ تزيد مِن أشكال اللامساواة القائمة وتضرُّ بمصادر دخل وعيش الناس. كما ينتقدان خطط البنك الدولي المتعلقة بـ"تحرير" وخصخصة قطاع الطَّاقة في السودان، موضحيّن كيف تنتهي تلك الخطط إلى إفقار الناس والحدِّ مِن توفر الطَّاقة.

يوثق محمد جاد في ورقته تجربة مصر في التعامل مع حالات انقطاع الكهرباء المتكررة والشاملة في عام 2014، مِن منظور "تحرير" إنتاج الكهرباء اقتصاديًا وإلغاء الدعم عن أسعار الكهرباء لفئات واسعة مِن المواطنين. وينتقد جاد ادّعاء البنك الدولي أنَّ تحرير أسعار الكهرباء قد أوقف الدعم المقدم للأغنياء وأعاد توزيع الموارد لصالح الفقراء. إذ يُبين كيف مهَّد ذلك الإجراء الطريق لدخول رأس المال المالي الدولي، على حساب الفئات الأكثر فقرًا، وحوّل – بشكل جذري – تلك الخدمة الأساسية إلى سلعة.

تحلل أسماء محمد أمين في ورقتها مختلف السياسات التي أسهمت في أزمات متتالية في قطاع الطَّاقة الأردني. وتُظهر كيف أنَّ توقف إمدادات الغاز الوارد مِن مصر بين 2011 و2013 قد أظهر إلى أيّ مدى هذه السياسات – التي انبثقت عن الخصخصة والتحرير التي روّج لها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي – لم تكن غير مدروسة فحسب، وإنَّما – أيضًا – غير ملائمة. وتنتقد الباحثة التصور المُبالغ فيه حول الأردن كبلد رائد في الطَّاقة المُتجدِّدة بالمنطقة، وتجادل بأنَّ وراء الإحصاءات المُشرقة توجد حقائق مؤلمة ومؤسفة، مفادها أنَّ القطاع الخاص حقق أرباحًا هائلةً في حين تكبدت الدولة خسائر ضخمة. ما فاقم بدوره عبء ديون الأردن وزاد مِن اعتماده على المقرضين الخارجيين، على حساب الفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع.

وفي إسهامهما حول تونس، يناقش شفيق بن روين وفلافي روش كيف اعتمدت خطط الانتقال الطَّاقي التونسية بقوة على الخصخصة والتمويل الأجنبي، مع تجاهل المشاركة الديمقراطية في صناعة القرار ودفع البلاد إلى فخٍّ مخطط نيوليبيرالي عالمي لتطوير وتنمية الطَّاقة المُتجدِّدة. ويرى الباحثان أنَّ الانتقال العادل لتونس كان الأولى به منح الأُسر والمجتمعات إمكانية إنتاج طاقتها الخاصّة، بدلاً مِن السعي وراء الأرباح للقطاع الخاص، ما يضمن تقليل التبعية وتعزيز تنمية صناعة محلَّية وخلق فرص عمل لائقة.

في ورقته عن قطاع الطَّاقة في المغرب، يطرح جواد مستقبل أسئلة في غاية الأهمية: مَنْ المستفيدون؟ ومَنْ يدفعون الثمن؟ ومَنْ القائمون على صناعة القرار في ملف "الانتقال الطَّاقي" في المغرب؟ يجادل بأنَّ الشراكات بين القطاعين العام والخاص تضمن أرباحًا ضخمة للشركات، بينما يتحمل الفقراء أسعارًا أعلى لاستهلاك الطَّاقة. ويقدّر الباحث صعوبة تحقيق انتقال عادل ما دامت الشركات متعدِّدة الجنسيات والنخبة المحلِّيَة الحاكمة تُسيطران على قطاع الطَّاقة المغربي، وتسمحان بنهب الدولة وتوليد الأرباح حسب الهوى والمزاج.

يُجادل آدم هنية بأنَّه لا بُدَّ مِن فهم صعود الخليج في ضوء التغيّرات الكبيرة التي طرأت في الرأسمالية العالمية على مدار العقدين الأخيرين. وهنا يجب فهم محور المحروقات الجديد الذي يربط احتياطات النفط والغاز في الشرق الأوسط بشبكات الإنتاج في الصين وآسيا، وهو الرابط الذي يوضح مكانة الخليج في قلب "الرأسمالية الأحفورية" المعاصرة. وبالنسبة له، فإنَّ سمة أيّ "انتقال أخضر" في الشرق الأوسط أو عالميًا، ستحدّدها تحركات وسياسات تلك الدول. لذلك يدفع بأنَّه بدون فهم تحدِّيات السيطرة على وإدارة صناعة النفط – ووضع الخطط الاستراتيجية المُلائمة والفعالة في هذا القطاع – فمِنَ المستحيل بناء حملات ناجحة لإيقاف وعكس مسار التغيّر المناخي.

تناقش إيمان بوخاتم في ورقتها عن الجزائر، التَّحدِّي الثلاثي الذي يواجه قطاع الطَّاقة: التبعية الاقتصادية للأرباح الهيدروكربونية (النفط والغاز)، وزيادة الطلب المحلّي على الكهرباء، واتفاقات تصدير الوقود الأحفوري طويلة المدى. كما تكشف عن الفرص والتحديات وأوجه الظلم المختلفة التي تعترض الانتقال الطَّاقي الأخضر في الجزائر، وتنصح كيف ينبغي على الجزائر أنْ تغيّر سريعًا مِن طبيعة قطاع الطَّاقة الخاص بها، مع التأكيد بقوة على العدالة الاجتماعية. ترصد الباحثة عوائق اجتماعية-اقتصادية ومؤسسية وسياسية، مِن الواجب تجاوزها لضمان تحقيق الانتقال العادل في الجزائر.

وأخيرًا؛ ينتقد كريتسيان هندرسن بعض الافتراضات البسيطة الرائجة في التقارير والتحليلات حول الخليج، والتي تُقدّمه باعتباره ضحية للتغيّر المناخي وأنَّه بصدد انحدار محتمل مرجعه تراجع متوقع في الطلب على النفط والغاز. ووفقًا لرؤيته، فإنَّ دول الخليج ليست أطرافًا منتجة للنفط والغاز لا حيلة لها فيما يخص التغيّر المناخي، وإنَّما تعمل على ضمان بقائها في قلب نظام الطَّاقة العالمي. ويستلزم هذا الأمر اتباع سياسة مزدوجة، إذ تستثمر في قطاع الوقود الأحفوري، وفي نفس الوقت تستثمر في قطاع الطاقات المُتجدِّدة.

على سبيل الختام

يسعى هذا الملف إلى فتح نقاش أعمق حول معنى ودلالة الانتقال العادل في سياق المنطقة العربيَّة، مِن وجهة نظر المؤلفين والمؤلفات. تختلف الديناميات القائمة بشكل واضح ومُركَّب مِن دولة لأخرى في المنطقة، لكنَّ ثَمَّة تحديات وأسئلة مشتركة كثيرة – أيضًا – تنبثق عن هذه التحقيقات: مَنْ هُمْ المستحقون والمحقون بالأولوية (الواجب مراعاة حقوقهم واحتياجاتهم)  في الانتقال الطَّاقي؟ ما نمط إنتاج الطَّاقة – ونمط الاستخراج – الذي يضمن تقديم الطَّاقة لكل شرائح الناس العاملة في المنطقة؟ كيف تفرض دول الشمال والمؤسسات المالية الدوليَّة المنطقة إلى تحمل أعباء الانتقال الطَّاقي؟ وما الحلول الأكثر عدالة؟ ما الدور الواجب على الدولة لَعِبُه في قيادة الانتقال العادل؟ وكيف يمكن أنْ تؤثر دمقرطة سلطة الدولة على مسار تحقيق هذا الهدف؟ ما التحالفات المحتملة والضرورية بين الأشخاص العاملين وحركات العدالة البيئيّة والأطراف السياسية الأخرى؟ وكيف يمكن للتضامن الدولي والمقاومة لعب دور مهم في دعم هذه التحالفات؟

يتطلب الانتقال العادل في المنطقة العربيَّة – وبشكل واضح – الإقرار بالمسؤولية التاريخية للغرب المتطوّر صناعيًّا، في ظهور الاحترار العالمي، وكذلك دور القوى الاقتصادية الصاعدَّة، وتشمل دول الخليج، في تثبيت ومدِّ جذور النظام الاقتصادي العالمي المدمّر. يجب الإقرار بدور السلطة/القوة في تحديد مسار تشكل التغيّر المناخي ومسبباته، ومَنْ يعانون مِنْ آثاره، و"الحلول" المقدّمة للأزمة. العدالة المناخية والانتقال العادل مفاهيم قادرة على كسر الوضع الراهن الذي يحمي النخب السياسية العالمية والشركات متعدِّدة الجنسيات والنظم غير الديمقراطية، في مبادرة نحو تحول اجتماعي وإيكولوجي وعمليات تكيّف جذريّة وشاملة. مع مرور الوقت، ثَمَّة تقارب حتمي بين العدالة والبراجماتية، وتتمثل نقطة الالتقاء بينهما في الحاجة إلى تعويضات مناخية، أو تسديد الديون المناخية لدول الجنوب العالمي مِن قِبل الشمال الأكثر ثراء بكثير. على ألا يتخذ هذا شكل قروض أو ديون إضافية على الجنوب العالمي، إنَّما تحولات كبرى في أنماط نقل الثروة والتكنولوجيا، وإلغاء الديون الهائلة الآنية، ووقف تدفقات رأس المال غير المشروعة، وتفكيك التجارة النيوكولونيالية واتفاقات الاستثمار ذات الصلة، مثل معاهدة ميثاق الطَّاقة،42 ووقف النهب والسلب المستمرين للموارد. يجب أنْ يُراعي تمويل الانتقال الخسائر والأضرار الحالية والقائمة والمستقبلية، التي تصيب بشكل غير عادل دول الجنوب. في ذات الوقت، لا تقتصر اللامساواة على الشمال والجنوب العالميين، إنَّما نجدها – أيضًا – داخل دول العالم المختلفة، ومنها دول المنطقة العربيَّة. مع أخذ هذا في الاعتبار، لذا مِنْ المهم فهم كيف يمكن لبرنامج جبر الضرر المناخي/التعويض المناخي أنْ يقترن بتهيئة نظام طاقة ديمقراطي ومنصف داخل هذه الدول؟

هذه أسئلة ضرورية ومُلحّة. تعاني المفاوضات الدوليَّة على العمل لمواجهة تغيّر المناخ مِنْ الركود، في حين نلاحظ تسارع وتيرة تغيّر المناخ، وانتشار وتعاظم آثاره القاتلة التي لا يمكن الشكّ في صلتها بالأزمة المناخية. لذلك فهذا الملف مادة للنشطاء، في المنطقة العربيَّة وحول العالم، لمساعدتهم على الاستمرار في طرح الأسئلة الناقدة وبناء التحالفات والائتلافات ومنصات القوة الشعبية دعمًا لحلولهم مِن أجل انتقال عادل.

بالطبع، لا تُغطي رؤية الملف كل الجوانب، وهناك قضايا غابت عن النقاش هنا، مثل آثار الحرب والنزاع الجاريين (والهجرات الجماعية عبر الحدود واسع النطاق للسكان)43 على الانتقالات العادلة في دول مثل العراق وليبيا وسوريا واليمن. يُعزى جزء مِن السبب إلى محدودية معارفنا ووقتنا، ورغم أنَّنا لا نزعم تقديمنا صورة كاملة – ولا نسعى لهذا – في نقاشنا حول منطقة شاسعة، فإنَّنا نتطلع إلى تقديم إطلالة مُهمَّة وإسهام معتبر على مسار دراسة الانتقال الطَّاقي عبر عدسة الاقتصاد السياسي، بما يعني التحري في العلاقات بين صناعات الوقود الأحفوري والطَّاقة المُتجدِّدة والنخب الإقليمية ورأس المال العالمي. في المُحصلة، فإنَّ الهدف هو فهم واستكشاف مفاهيم وأفكار سياسية يمكن أنْ تساندنا في توجيه التغيير بقيادة الأطراف الشعبية المختلفة وإلهام هذه الحركات. يحدونا أملٌ أنْ تؤدِّي هذه المجموعة مِن الأبحاث إلى توليد وطرح جدل أكثر وأعمق وطرح أسئلة أكثر حول دور المنطقة العربيَّة في الانتقال العادل على المستوى العالمي.