شعلة الكفاح ضد الاستعمار من فيتنام إلى الجزائر إلى فلسطين

تسلط الذكرى السبعين لثورة ديان بيان فو والجزائر الضوء على تأثيرهما العميق على إنهاء الاستعمار العالمي. يستكشف هذا المقال الطويل تأثيرهما على المقاومة الفلسطينية، ويلقي الضوء على نضالهما المشترك ضد القمع الاستعماري وإلهامهما المستمر للعالم.

Authors

Longread by

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

مدخل

"ليست الثورة حفل عشاء، أو كتابة مقال، أو رسم لوحة، أو تطريز؛ ولا يمكن لها أن تكون على ذلك القَدْر من الصفاء والتأنّي واللطف". ماو تسي تونغ، 1927 (Zedong 1953)

"ليس الاستعمار آلة تفكير، ولا جسداً محبُوَّاً بملكات عقلية. إنّه عنف في حالته الطبيعية ولا يستسلم إلا حين يواجَه بعنف أكبر". فرانز فانون (فانون 1961)

"ألقت الإمبريالية بجسدها على كل أنحاء العالم. حيث يقع رأسها في شرق آسيا، أما قلبها فموضعه الشرق الأوسط، وتمتد شرايينها من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. فأينما صعقتها، ستفتك بها، وتكون بذلك قد خدمت الثورة العالمية". غسان كنفاني (كنفاني 1972)

     يصادف هذا العام، 2024، الذكرى السبعين لمعركة ديان بيان فو (أيار/ مايو 1954) التي ألحق فيها الثوار الفيتناميون هزيمةً ساحقة بالمستعمرين الفرنسيين. كما يصادف الذكرى السبعين للثورة الجزائرية التي بدأت في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه. قاوم الجزائريون والفيتناميون القهر الاستعماري لعقود قبل أن يقودوا اثنتين من أهمّ الثورات في القرن العشرين، ضد فرنسا (وعملائها المحليين)، حين كانت فرنسا ثاني أكبر قوة استعمارية أوروبية في العالم، وكانت تدعمها فوق ذلك قوات حلف شمال الأطلسي. ولا يمكن لنقاش حول تصفية الاستعمار ومناهضة الإمبريالية أن يكتمل من دون أن نفهم أهمية فيتنام والجزائر، وكيف كان الكفاح التحرري الثوري فيهما (ولا يزال) ملهماً أشدّ الإلهام للشعوب المضطهَدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الفلسطينيين.

     ما من ثورة تشبه ثورةً أخرى تمام الشبه. ذلك لأنَّ كلّ ثورة تضرب بجذورها في تاريخ وطني أو إقليمي بعينه، وتقودها قوى اجتماعية وجيليّة محددة، وتحصل في لحظة معينة من تطور البلد المعنيّ. لكنَّ الثورات جميعها تتقاسم عنصراً مشتركاً، لولاه ما كانت لتسمّى بالثورات: تولّي كتلة طبقية جديدة قيادة الدولة، أو الانتقال من التبعية الاستعمارية إلى الاستقلال الوطني. وكما يقول لينين، "كي تحدث ثورة، لا يكفي في العادة ألّا تريد الطبقات الدنيا العيش بالطريقة القديمة؛ فمن الضروري أيضاً ألّا تعود الطبقات العليا قادرة على العيش بالطريقة القديمة". وعلى الرغم من جميع العناصر التي قد تشير إلى الاستمرارية، فإنَّ هذا القطع هو ما يسم تغييراً ثورياً.

     على هذه الخلفية وقبالة هذا الفهم، أتوخّى من هذه المقالة الطويلة خمسة أمور:

1- مشاركة بعض الأفكار التاريخية حول الكفاح المناهض للاستعمار في الجزائر وفيتنام، لتسليط الضوء على فصول مهمة في تاريخ مناهضة الاستعمار.

2- إقامة صِلات وتوازيات بين الكفاحين، وبينهما وبين الكفاح التحرري الفلسطيني الجاري، لفهم كيف استلهم الفلسطينيون كلا الكفاحين وكيف يواصلون في الآن ذاته إلهام العالم بمقاومتهم الحازمة للاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

3- تحدي المحاولات الرامية إلى إقامة تكافؤ زائف بين المستعمرِين والمستعمَرين وتفنيدها.

4- تسليط الضوء على التضامن العابر للقوميات بين المضطهَدين والمستعمَرين.

5- إحكام وضع المقاومة الفلسطينية والكفاح التحرري الفلسطيني في إطار الخط الطويل من الكفاح المناهض للاستعمار والإمبريالية الذي يعود إلى النضال الهايتي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، عندما ثار العبيد الهايتيون ضد الإمبراطورية الفرنسية وأسسوا أول جمهورية سوداء (James 2001).

الاستعمار ينكر على المستعمَرين تاريخهم، والتحرر الوطني يخلقه من جديد

"التحرر الوطني، والنهضة الوطنية، واستعادة الشعب هويته الوطنية، والاتحاد ... أيًا تكن العناوين المستخدَمة أو الصيغ الجديدة المُدْخَلَة، فإنَّ تصفية الاستعمار ظاهرة عنيفة على الدوام" فرانز فانون (فانون 1961(

     كان الكفاح الاستقلالي الجزائري ضد المستعمرين الفرنسيين أحد أشدّ الثورات المناهضة للإمبريالية إلهاماً في القرن العشرين. إذ كان جزءًا من موجة تصفية الاستعمار التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية في الهند والصين وكوبا وفيتنام وكثير من البلدان في أفريقيا. واكتنفته روحيّة مؤتمر باندونغ وحقبة "يقظة الجنوب"، ذلك الجنوب الذي خضع طوال عقود (ولأكثر من قرن في عديد من الحالات) للسيطرة الإمبريالية والرأسمالية تحت أشكال مختلفة، من المحميات إلى المستعمرات الاستيطانية بمعناها الدقيق (كما كانت الحال في الجزائر).

     لو عدنا بالنظر إلى الوراء، لأمكننا أن نرى أنّ الاستعمار الفرنسي للجزائر كان فريداً من نوعه، إذ كانت الجزائر أول بلد ناطق بالعربية يُضمّ إلى الغرب وواحد من أوائل البلدان في أفريقيا يُخضع رسميًا لإمبراطورية غربية، قبل وقت طويل من مؤتمر برلين في عام 1884، حين التقت إمبراطوريات أوروبية مختلفة (بريطانية وفرنسية وألمانية وبلجيكية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية) لتتقاسم القارة فيما بينها.

     غزت فرنسا الجزائر في حزيران/ يونيو 1830. وسوف يمضي الجيش الفرنسي السنوات الخمسين التالية في قمع التمرد هناك، منها 15 عامًا في قتال زعيم المقاومة الألمعي والمخلص وشديد البأس عبد القادر. ولقد خاضت فرنسا حرب احتلال الجزائر بلا هوادة، لاسيَّما تحت قيادة المارشال بيجو الشرس الذي تبنى سياسة الأرض المحروقة، وارتكب فظائع تتراوح بين تشريد السكان ومصادرة الأراضي والمجازر ومحارق الخنق بالدخان (enfumades) الشهيرة، إذ قضى الجيش الفرنسي على قبائل بأكملها بهذه الطريقة1.

     إلى جانب حملة الإخماد التي قادها المارشال بيجو، شجعت فرنسا كثيراً على استعمار شعبها الجزائر. وقال بيجو، في كلمة أمام الجمعية الوطنية في عام 1840: "حيثما توجد مياه عذبة وأرض خصبة، يجب أن يكون ثمة مستعمِرون ]مستوطنون[، من دون أن نشغل أنفسنا بمن تعود إليهم تلك الأرض". (وهذه بالضبط هي المقاربة التي سيطبقها الصهاينة في فلسطين، بعد قرن من الزمان). وفي عام 1841، بلغ عدد هؤلاء المستوطنين 37374، مقارنةً بنحو 3 ملايين من الـindigènes  أو السكان الأصليين. وفي عام 1926، بلغ عدد المستوطنين نحو 833000 مستوطن، أي 15% من السكّان، ثم ارتفع إلى أقلّ من مليون بقليل في عام 1954.

     شمل الاستعمار سلب العامل الأساس للإنتاج، أي الأرض، من الفلاحين الأصليين وإعادة توزيعها على المستوطنين، ما أدَّى إلى تدمير أساس اقتصاد الكفاف الفلاحي (الأشرف 2011). قاومت جماهير الريف اعتداءات الجيش الاستعماري حتى عام 1884، لكنَّ لباب المقاومة الريفية الجزائرية للاستعمار تحطّم في عام 1871، حين سُحِقَت في النهاية الثورة السياسية الزراعية الكبيرة التي انتشرت على امتداد ثلاثة أرباع البلاد. كانت هذه الانتفاضة الفلاحية التاريخية ردَّ فعلٍ على سلسلة من إجراءات المصادرة الكارثية خلال ستينيات القرن التاسع عشر أثارت غضب أغلبية أهل الريف الجزائري ودفعتهم إلى الخوف على حيواتهم وأرزاقهم. ولقد تفاقم وضعهم بسبب الجفاف وسوء المحصول والمجاعة وغزو الجراد والمرض، ما أسفر عن أكثر من 500 ألف ضحية (حوالي خمس السكان). ويُقدَّر أنَّ عدة ملايين من الجزائريين لقوا حتفهم في الفترة ما بين 1830 و1870 (Bennoune 1988, Davis 2007 and Lacheraf 1965).

     وصف الماركسي المصري سمير أمين كيف حوّل سكان الريف الجزائري الفتح الاستعماري إلى حرب طويلة وطاحنة:

"أضفى انهيار حكومة الوصاية (العثمانية) وحرب الإبادة التي شنّها الجيش الفرنسي على هذه الفترة المبكرة (1830-1884) بعض السمات الخاصة التي لا نجدها في أي مكان آخر ... ففي مواجهة القوة العسكرية، أُلْقِيَ بالطبقة الحاكمة الحضرية في حال من التشوُّش ولم يعد بوسعها أن تفكر في أيّ بديل سوى الفرار ... أمّا بالنسبة إلى الفلاحين، فلم يكن الفرار وارداً. وفي مواجهة خطر الإبادة، حوّلوا الريف الجزائري إلى أرضِ حربٍ استمرت خمسين عامًا وسقط فيها ملايين الضحايا". (أمين 1981)

     دام الحكم الاستعماري الفرنسي في الجزائر 132 عاماً (مقارنة بـ 75 عاماً من الحكم الاستعماري في تونس و44 عاماً في المغرب)، بمدّةٍ وعمقٍ فريدين في تجارب الاستعمار في كلّ من أفريقيا والعالم العربي. وفي عام 1881، أُديرت الجزائر لأولّ مرة باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من فرنسا. ومع هذا التوسيع للحكم المدني إلى البلاد جاءت معاملة السكّان المسلمين في الجزائر على أنهم من الدرجة الثانية. وانعكس إقصاء المسلمين على جميع مستويات التمثيل السياسي، وأُدمِجَ التمييز ضد المسلمين في النظام الانتخابي، وأُدرجت مكانة المسلمين المتدنية في القانون بموجب قانون السكان الأصليين (Code de l’Indigénat) البغيض لعام 1881.

     بعد النجاح الفرنسي في القمع الوحشي للتمردات المناهضة للاستعمار في الجزائر، وكان آخرها في سبعينيات القرن التاسع عشر وثمانينياته، مرّ أكثر من نصف قرن قبل أن تستأنف حركة المقاومة الجزائرية النضال من جديد، في هيئة الوطنية الجزائرية الحديثة.

8 أيار/ مايو 1945: "يوم النصر في أوروبا" والمذابح في الجزائر

"في سطيف، أُهين حسِّي الإنساني لأوّل مرّة بأكثر المشاهد فظاعةً. كنت في السادسة عشرة من عمري. لم أنس قط الصدمة التي شعرت بها إزاء المذبحة الوحشية التي تسببت بمقتل آلاف المسلمين. منذ تلك اللحظة، اتخذت وطنيتي شكلاً محدداً". كاتب ياسين، كاتب وشاعر جزائري

     في الثامن من أيار/ مايو 1945 عمَّت الاحتفالات أرجاء أوروبا مع انتشار أنباء استسلام النازيين. ابتهجت فرنسا بتحررها من احتلال دام خمس سنوات. في الوقت ذاته تماماً، بدأت في الجزائر حوادث أدّت إلى المذبحة الاستعمارية التي راح ضحيتها آلاف المسلمين الجزائريين على مدى الشهرين التاليين.

     في يوم النصر في أوروبا، وبينما كان الأوروبيون يحتفلون، انطلق الجزائريون في سطيف في مسيرة من أجل الاستقلال وإنهاء الاستعمار، رافعين لافتات تحمل شعارات مثل "عاشت الجزائر حرة مستقلة". كما رفعوا لأوّل مرة ما سيصبح لاحقاً علم جبهة التحرير الوطنية الجزائرية. ولقد واجهت السلطات الاستعمارية الفرنسية المسيرة بالقمع العنيف، ما أدّى إلى تمرد أدى إلى مقتل 103 أوروبيين.

     كان ردّ الفعل الاستعماري على عمليات القتل هذه وحشياً. فقد قصفت القوات العسكرية الفرنسية (الجوية والبحرية والبرّية) مناطق عديدة، وأحرقت قرى كثيرة في سطيف وقالمة وخراطة وسوَّتها بالأرض. وعلى مدى شهرين، ذبحت قوات الجندرمة الفرنسية2 والعساكر الفرنسيون، والمستوطنون الناقمون، عشرات الآلاف من المسلمين الجزائريين، تشير بعض التقديرات إلى بلوغ عددهم 45 ألفاً.

     إنَّ أوجه التشابه بين مجازر سطيف وقالمة وخراطة وعملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول /أكتوبر 2023، وما تلاها من مذابح الإبادة الجماعية الوحشية، هي أوضح من أن يمكن تجاهلها. ففي كلتا الحالتين، لم يُفسح أيّ مجال للمقاومة، سواء كانت سلمية أو عنيفة، وسُحِق التطلّع إلى تقرير المصير بقوة غير متناسبة إلى أبعد الحدود.

     في ذلك الوقت (من عام 1945)، كتب أحد المحللين، محاولاً شرح "بربرية" المستعمَرين وتبرير القمع الدموي الذي مارسته فرنسا: "تُطلق الدعوة إلى العنف من الجبال نوعًا من الجنّ الشرير، كاليبان البربري البرّي القاسي الذي لا سبيل إلى إهماد حركته إلا بقوة أعظم من قوته. هذا هو التفسير التاريخي والاجتماعي للحوادث التي وقعت في سطيف في اليوم ذاته الذي احتُفل فيه بالنصر" (Gresh 2023). ولا نزال نرى اليوم عقلية التفوق العرقي الاستعمارية ذاتها والتفسيرات العنصرية والاستشراقية والجوهرانية ذاتها لما يدفع المضطهَدين والمستعمَرين إلى الثورة؛ فغالبًا ما تُعزى الهجمات الفلسطينية في 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلى الشر الخالص والهمجية اللاعقلانية والبربرية الأبدية لإرهابيين قروسطيين أدنى من البشر، بعيدًا كلّ البعد عن السياق السياسي لأكثر من 75 عامًا من الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والاحتلال.

     كان للمذابح التي أعقبت تظاهرات الثامن من أيار/ مايو 1945 تداعيات بالغة الأهمية على الحركة الوطنية الجزائرية. فبالنسبة إلى الجيل الشاب من المناضلين، كانت الحرب الجزائرية قد بدأت بالفعل ولم يعد من الممكن تأجيل الاستعداد للكفاح المسلح. ويتفق معظم المؤرّخين على أنَّ مذابح عام 1945 كانت صادمة، وتركت أثراً في كلّ مسلم جزائري عاش في تلك الفترة. بل إنَّ كلَّ وطني جزائري برز في جبهة التحرير الوطني يُرجع عزمه على الثورة إلى أيار/ مايو 1945. ولن يكون من المستغرب أن تُرجع أجيال قادمة من الثوار الفلسطينيين والعرب (من الاتجاهات السياسية كافّة) التزامها النضال التحرري إلى الإبادة الجماعية التي أعقبت هجمات السابع من تشرين الأول /أكتوبر والمقاومة البطولية التي لا تزال مستمرة في غزة، وقت كتابة هذه السطور.

     سبق لأحمد بن بلة، أحد قادة جبهة التحرير الوطني ورئيس الدولة الجزائرية من عام 1962 إلى عام 1965، أن خدم رقيبًا بأوسمة في الفوج السابع من القنّاصة الجزائريين، وهي وحدة تميّزت في المعارك في أوروبا. لكنَّ حوادث عام 1945 وضعته إلى مسار الثورة. وكتب لاحقًا: "أفلحت أهوال منطقة قسنطينة في أيار/ مايو 1945 في إقناعي بالسبيل الوحيد: الجزائر للجزائريين". وبالمثل، دفعت المذابح الاستعمارية في عام 1945 محمد بوضياف، وهو قائد ثوري آخر في جبهة التحرير الوطني ورئيس دولة مستقبلي أيضًا، إلى رفض السياسة الانتخابية والاندماج وتبنّي المقاومة المسلحة والعمل المباشر باعتبارهما السبيل الوحيد لتحقيق التحرير. 

     كانت الحوادث المروِّعة لعام 1945 بمنزلة الرشقات الأولى في الكفاح الجزائري من أجل الاستقلال.

انتصار فيتنام مصدر إلهام الجزائر

"تهدف أعمالنا إلى أخذ الحرب إليهم، ليعلم العالم بأجمعه أنَّ الشعب الجزائري يقود حرب تحرير ضد المحتلين الأوروبيين". جميلة بوحيرد   

     لا يمكن فصل النضال الجزائري من أجل الاستقلال عن السياق العالمي لتصفية الاستعمار. ففي عام 1945، تأسست جامعة الدول العربية، والتزمت وحدة العرب. وفي عام 1947، نالت الهند استقلالها عن بريطانيا. وفي عام 1949، هزمت الثورة الماوية الصينية القوميين بقيادة تشيانج كاي شيك وأقامت جمهورية الصين الشعبية. وشهد عام 1955 صعود القومية العربية/ الناصرية وانعقاد مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، حيث تحدَّى 29 بلداً من بلدان عدم الانحياز من أفريقيا وآسيا الاستعمار والاستعمار الجديد في سياق توترات الحرب الباردة.

     لم يخالط زعماء جبهة التحرير الوطني أي وهم بشأن حجم المهمة أمامهم، لكنَّ ثقتهم تعزّزت بالهزيمة المهينة التي منيت بها فرنسا في الهند الصينية في أيار/ مايو 1954. وكما أوضح فرانز فانون، فإن النصر العظيم الذي حققه الشعب الفيتنامي في ديان بيان فو لم يعد، بالمعنى الدقيق للكلمة، مجرد نصر فيتنامي: "منذ تموز/ يوليو 1954، بات السؤال الذي طرحته الشعوب المستعمَرَة على نفسها هو: ما العمل لاجتراح ديان بيان فو أخرى؟ كيف لنا أن نتدبّر ذلك؟" (فانون 1961).

     كان فانون مفتوناً بما حققه الفيتناميون في ديان بيان فو. ورأى أنّ انتصار الفيتناميين على الفرنسيين في هذا الوادي القصيّ في جنوب شرق آسيا أثبت أنَّ المستعمَرين قادرون على توليد العنف الثوري اللازم لإجبار المستعمِر على إنهاء الاستعمار. وسرعان ما تردَّدت أنباء انتصار الفيتناميين في أرجاء الإمبراطورية الفرنسية، محطمةً أسطورة المستعمِر الذي لا يقهر، ومحدثةً شروخاً في بنية الإمبراطورية. وليس من المبالغة التأكيد على أهمية ديان بيان فو وتأثيرها في نفسية الشعوب المستعمَرة. يتذكر بن يوسف بن خدة، رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية: "في السابع من أيار/ مايو 1954، ألحق جيش هوشي منه بفيلق مشاة الشرق الأقصى الفرنسي كارثة ديان بيان فو المذلّة. وكانت هذه الهزيمة الفرنسية حافزاً قوياً لجميع أولئك الذين كانوا يعتقدون أنَّ التمرد في الأمد القريب بات الآن العلاج الوحيد، والاستراتيجية الممكنة الوحيدة. ... تقدَّم العمل المباشر على جميع الاعتبارات الأخرى، وأصبح أولوية الأولويات" (بن خدة 2012).

     وصف فرحات عباس، أول رئيس بالنيابة للجمهورية الجزائرية المستقلة حديثًا، انتصار الفيتناميين في ديان بيان فو بأنّه فاتحة حقبة جديدة، معتبراً إياه على القدر ذاته من الأهمية مع انتصار الجيش الثوري الفرنسي على البروسيين في معركة فالمي التاريخية عام 1792:

"لم تكن ديان بيان فو مجرد انتصار عسكري. هذه المعركة هي رمز. إنّها "فالمي" الشعوب المستعمَرَة. شهادةٌ  للآسيويين والأفارقة في مواجهة الأوروبيين. وإثباتٌ لكونيّة حقوق الإنسان. في ديان بيان فو، فقَدَ الفرنسيون مصدر "الشرعية" الوحيد الذي يقوم عليه وجودهم، حقّ القوي [في أن يحكم الضعيف]." (عباس 1962).

ووصف آخرون ديان بيان فو بأنّها ستالينغراد تصفية الاستعمار.

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

الحفاظ على الإمبراطورية والتضامن بين المستعمَرين

ليس الهندوصيني ثائراً لأنَّه اكتشف ثقافة خاصة به، بل "بكلّ بساطة" لأنّه بات المستحيل عليه، بأكثر من معنى، أن يتنفس. فرانز فانون (فانون 1961).

من الصعب أن نتخيّل، بعد 70 عامًا، ما خلَّفته الحرب الهندوصينية الأولى، لاسيّما ديان بيان فو، من أثر في العالم الاستعماري، خصوصاً مستعمرات فرنسا، من الجزائر إلى السنغال ومن المغرب إلى مدغشقر. لقد هُزِمَت قوةٌ استعمارية. وسُحِقَ جيشٌ نظامي!

     في أربعينيات القرن العشرين، خلال الحرب العالمية الثانية، حين غزت ألمانيا النازية فرنسا واحتلتها، أقدم عشرات آلاف الجزائريين والمغاربة والسنغاليين والفيتناميين وغيرهم على الانخراط في معركة تحريرها التي أَمِلوا أن تفضي بدورها إلى تحريرهم. لكنَّ فرنسا ما إن نهضت أخيرًا من بين الأنقاض حتى شرعت في استعادة إمبراطوريتها المحطمة بكلّ ما أوتيت من تكبُّر استعماري. وعلى الرغم من المفاوضات في باريس بين جان سانتيني وهوشي منه لتسوية مسألة فيتنام ما بعد الحرب. وعلى الرغم من انتصار اليسار، بما في ذلك الشيوعيين، في الانتخابات الفرنسية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1946، قررت الحكومة الفرنسية إعادة احتلال فيتنام. وسواء كانت فرنسا بقيادة اليمين أو الوسط أو اليسار، أو بقيادة قوى دينية أو علمانية، فقد واصلت، من جمهورية إلى أخرى، التمسّك بإمبراطوريتها، من وادي ديان بيان فو إلى القصبة في الجزائر.

     بعد اندلاع الحرب في كانون الأول/ ديسمبر 1946، وفي الفترة من 1947 إلى 1954، أُرسِل عشرات الآلاف من شمال أفريقيا للقتال مع فرنسا في الهند الصينية (وبلغ الرقم في النهاية 123 ألفاً)، في وقت كانت بلدانهم تشهد أولى بوادر النضال من أجل الاستقلال. وما إن وصلوا إلى فيتنام حتى فَّر المئات منهم وانضموا إلى الفيت مينه. وكانوا في هذا يستجيبون لدعوات فيتنامية للتضامن ضد الاستعمار (Delanoë 2002). وكانت إحدى هذه الدعوات قد وردت في رسالة أرسلها وزير في حكومة هو شي منه إلى زعيم الاستقلال المغربي عبد الكريم الذي كان في المنفى في القاهرة، في أوائل عام 1949. وقد جاء فيها:

"إنّ مقاومتنا هي نفسها مقاومتكم، ونضالكم لا يختلف في شيء عن نضالنا، لهذا، فإن من شأن تضامن حركات التحرير الوطني في إطار الإمبراطورية الفرنسية السابقة أن يضع حدّاً نهائياً للإمبريالية الفرنسية. 

صاحب السمو،

إن حكومة هو شي منه تلتمس منكم أن تتفضلوا بممارسة سلطتكم الروحية الواسعة لدعوة جند إفريقية الشمالية إلى رفض الذهاب إلى فيتنام، ونلتمس منكم إلى جانب ذلك أن يقاطع عمال الموانئ السفن الفرنسية". (ساعف 2007)

جاء ردّ عبد الكريم، قائد حرب العصابات الثورية الذي هزم الجيش الإسباني في معركة أنوال الملحمية في عام 1921 وأقام جمهورية الريف قصيرة الأجل (1921-1926) قبل أن يهزمه الفرنسيون والإسبان في النهاية بالغارات الجوية والقصف بالغاز والنابالم والبنادق ذاتية الحركة وعشرات الآلاف من مجندي الإمبراطورية (عياش 1992 وداود 2007): "إنّ انتصار الاستعمار، ولو في أقصى العالم، هو هزيمة لنا وفشل لقضيتنا. وانتصار الحرية في أيّة بقعة من بقاع العالم هو ... علامة على قرب استقلالنا". (ساعف 2007)

     أدّى توالي النكسات التي مُني بها الجيش الفرنسي في الهند الصينية إلى زيادة الوعي بالحاجة إلى التضامن بين الشعوب المستعمَرة. واستجابة لهذه الحاجة، رفض عمال الموانئ الجزائريون في موانئ وهران والجزائر تحميل المواد الحربية المتجهة إلى الهند الصينية.

كذلك طلب الفيتناميون من عبد الكريم والحزب الشيوعي المغربي إرسال رجل من شمال أفريقيا يمكنه إنشاء شبكة للحرب النفسية تشجّع القوات القادمة من شمال أفريقيا داخل فيلق مشاة الشرق الأقصى على الفرار والانضمام إلى الفيتناميين والعودة في النهاية إلى بلدانهم الأصلية لمحاربة المستعمرين الفرنسيين. تولّى هذا الدور محمد بن عمر لحرش (بالاسم الحركي معروف). وهو من المغرب، مثل عبد الكريم، ونقابي وعضو في الحزب الشيوعي المغربي. وفي نهاية الأربعينيات، رحل إلى هانوي. وقد شرح أنشطته مع الجنود من شمال أفريقيا الذين إمّا انضموا إلى الفيت مينه أو أُسروا على النحو التالي:

"أحاول أن أخلق قرى حقيقية لأسراي العرب والقبايل، وأضعهم في أكواخ مستقلة، وأجعلهم يعيشون حياة تذكّرهم بالوطن. ليس علينا أن نجعل هؤلاء الرجال فيتناميين؛ علينا أن نعيدهم إلى وطنهم في أسرع وقت ممكن! يجب أن يبقوا أنفسهم؛ ويشكلون كوادر جيوش التحرير لدينا... لن أدع فارّيَّ المغاربة والجزائريين يموتون". (ساعف 2007)

     في مناشداته الجنود من شمال أفريقيا الذين قاتلوا إلى جانب الفرنسيين في فيتنام، وفي تثقيفه السياسي للأسرى والجنود المنضمّين من شمال أفريقيا، كانت رسالة معروف هي: "عودوا إلى بلدكم، إن هؤلاء الفيتناميين يقاتلون كما هو الحال عندنا في المغرب من أجل استقلالهم. ... عودوا إلى بلدكم ووظفوا قتاليتكم في تحرير بلادكم" (ساعف 2007). وسعى، فوق كل هذا، إلى استرداد الشمال أفريقيين الذين استخدمهم الفرنسيون كوقود للمدافع، ووجدوا أنفسهم ضائعين في هذا البلد الآسيوي القصيّ، بهدف صريح هو إعادتهم إلى بلدانهم في أقرب وقت ممكن.

     تجلّى أثر عمل معروف على أفضل وجه في المئات من العائدين الجزائريين الذين أصبحوا كوادر عسكرية فاعلة في جبهة التحرير الوطني الجزائرية بدءًا من 1954/ 1955. كانت أنشطة معروف بطولية حقًا؛ شملت المشاركة في اعتقال الجنرال الفرنسي دي كاستريس في ديان بيان فو. وشهادة على التقدير العالي الذي كان يحظى به، أطلق عليه هو شي منه اسم آنه ما (Anh Ma)، ويعني حرفيًا "الأخ الحصان"، ومنحه الفيتناميون رتبة جنرال، وقلَّدوه الميداليات (ساعف 2007 وDelanoë 2002).

     بالنسبة إلى فرنسا، أصبحت معركة ديان بيان فو رمزًا لتعنّتٍ بالٍ أدى إلى كارثة. أمّا بالنسبة إلى فيتنام، فكانت رمزًا لاستعادة الاستقلال الوطني. لكن معركة ديان بيان فو لم تكن مجرد حادث تاريخي بالنسبة إلى هذين البلدين وحدهما: ففي جميع أرجاء العالم، راح يُنظر إلى المعركة على أنَّها نقطة تحول بشَّرت بقدوم معارك تحرر أخرى. ولم يكد صدى الطلقات يهدأ في وادي تونكين حتى سُمع في جبال الأوراس في الجزائر. وفي غضون أقلّ من عام، اجتمع "معذّبو الأرض" في باندونغ. أمّا من جهة المستعمِرين، فقد أسرَّ دي لاتر، رئيس أركان الجيش الفرنسي، للضابط الذي كلَّفه بإنشاء جيشه الفيتنامي، بأنّ عليهم الحفاظ على الإمبراطورية: "نحن ندافع في تونكين عن مواقعنا في أفريقيا. يجب أن يخضع كلّ شيء لهذا الأمر" (Goscha 2022). واليوم في غزة، تسعى الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة إلى الدفاع عن هيمنتها العالمية.

     تستخدم الولايات المتحدة وإسرائيل، في محاولتهما الحفاظ على الإمبراطورية في غزة، طرقًا وحشية مماثلة لتلك التي استخدمها الفرنسيون في فيتنام، بما في ذلك تجويع السكان المدنيين. لقد ركَّز الفرنسيون على الحيلولة دون وصول الفيتناميين إلى الرز، كجزء من أمر الجنرال الفرنسي راؤول سالان "تجويع الخصم" (أسَّس سالان لاحقًا منظمة الجيش السري(OAS) ، وهي منظمة إرهابية سرِّية سعت إلى الحيلولة دون استقلال الجزائر). لم يكن استخدام الطعام كسلاح جديدًا بأيّ حال من الأحوال. فقد مارست الجيوش الإمبراطورية هذا الشكل من الحرب منذ القِدَم. لكن الفرنسيين كانوا أول من طبّق هذا النهج في حرب تصفية الاستعمار في القرن العشرين، بما حمله من عواقب وخيمة على الفيتناميين. وبفعلهم ذلك، أزالوا الخط الفاصل بين المقاتلين والمدنيين، وبين الجبهة الداخلية وجبهة المعركة. كانت هذه حرباً شاملةً (La Guerre Totale)، على حدّ تعبير الجنرال ليونيل ماكس شاسين، قائد القوى الجوية الفرنسية في الهند الصينية في أوائل خمسينيات القرن العشرين. وأكّدَ شاسين على أنَّ هذه هي الطريقة الوحيدة للفوز في حرب استعمارية، مدافعاً عن أنَّه "يجب تجويعهم حتى الموت" (Goscha 2022). و في عام 1956، أخبر شاسين رئيسه بأنّه "على قناعة بأننا لو قتلنا جميع جواميس الماء، ودمَّرنا الأرز كلّه في الهند الصينية، لجعلنا الفيتناميين تحت رحمتنا متى أردنا".

     حكم منطقٌ مماثل محاولةَ فرنسا "إخماد" الثورة في الجزائر بين عامي 1954 و1962، وها هو يحكم الآن من جديد حربَ إسرائيل الشاملة على غزة. والحقيقة أنَّ ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد إبادة جماعية. ومع أنّه يكاد يكون من المستحيل العثور على المصطلحات المناسبة لوصف مستوى الدمار والموت اللذين تلحقهما إسرائيل بالفلسطينيين، فإنّ ثمة عدداً وافراً من المفاهيم المستخدمة الآن لفهم فداحة ما يحدث: إبادة المدن، إبادة المدارس، إبادة المنازل، إبادة البيئة، إبادة كلّية: أي إبادة نسيج اجتماعي وبيئي كامل.

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

العنف الثوري وحرب العصابات المدينية في زمن تصفية الاستعمار

"نحن من دعاة القضاء على الحرب، ولا نريد الحرب؛ لكن الحرب لا يمكن القضاء عليها إلّا بالحرب، وكي نتخلص من السلاح، لا بدّ من امتشاق السلاح". ماو تسي تونغ (تسي تونغ 1969)

"من خلال معرفتنا بكل شيء حدث في البلد، فقد كان من الواضح انه لم يكن هناك خيار إلا خيار المقاومة المسلحة وأن علينا مواجهة الفرنسيين بالعنف". زهرة ظريف (الظريف 2013)

     غدت الحربان الهندو صينية والجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي أساسًا للسياسة الحديثة في كلا البلدين. وكان على كلا هذين الكفاحين من أجل الاستقلال أن يصوغا بعمق طابع الفكر المناهض للاستعمار على مدى العقود اللاحقة.

     يرى كريستوفر غوشا في كتابه البديع الطريق إلى ديان بيان فو أنّ الأمر انتهى بهو شي منه إلى إدارة نوعين من الدولة في زمن الحرب، واحدة قادرة على مقاومة المستعمر، بحرب عصابات، تمامًا كما فعلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية في شمال أفريقيا، والأخرى قادرة على توليد القوة العسكرية والتنظيمية المطلوبة لهزيمة جيش استعماري غربي في معركة مُخَطَّط لها جيداً، من النوع الذي ابتكره الشيوعيون الصينيون. وبفضل المساعدة العسكرية الصينية والمستشارين العسكريين الصينيين، والتثقّف بالعلوم العسكرية الحديثة، وإدخال قوانين التجنيد والتعبئة، قاد الشيوعيون الفيتناميون ثورة عسكرية لا مثيل لها في أي حرب أخرى من حروب تصفية الاستعمار في القرن العشرين (Goscha 2022). والواقع أنَّ الوطنيين الجزائريين لم يكونوا الوحيدين في عجزهم عن الانتقال من حرب العصابات إلى الحرب التقليدية؛ إذ لا نجد في أي حرب أخرى من حروب تصفية الاستعمار في القرن العشرين أيّ شيء يشبه جيش الشعب الفيتنامي، أو أي ديان بيان فو أخرى. لكن ذلك لا يعني أنّه لا تمكن هزيمة القوى الاستعمارية بطرائق أخرى، بما في ذلك حرب العصابات.

     لم يكن النضال الفيتنامي المناهض للاستعمار ضد الفرنسيين مستقلاً عن حوادث أخرى في آسيا. فقد اندلعت الحرب الهندوصينية الأولى (1945-1954) بالتوازي مع الحرب الكورية في سياق امتداد الحرب الباردة إلى جنوب شرق آسيا، حيث رأت الولايات المتحدة في مساعدة فرنسا سبيلاً لمقارعة الشيوعيين. وشهد استئناف الحرب في فيتنام في عام 1960 دخول الولايات المتحدة المباشر هذا الصراع، بتكنولوجيتها الحربية الهائلة وإيمانها بأن انتصارها مضمون. ولم تعد الولايات المتحدة في حاجة إلى عون بلد ثالث كي تُنزل ضربات ساحقة بالشيوعيين في آسيا. وسوف تتواصل الحرب الأميركية ضد فيتنام خمسة عشر عاماً قبل أن يضطر "الأرمادا الذي لا يُقهر" لأن ينسحب صاغراً، تاركاً وراءه بلداً مدمّراً.

     لم يقتصر الدمار والعنف على الثورات المناهضة للاستعمار في فيتنام. كذلك أطلق إعلان الحرب في الجزائر في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 واحدةً من أطول الحروب وأفظعها وأكثرها دموية في تاريخ تصفية الاستعمار. وكان لدى قيادة جبهة التحرير الوطني تقدير واقعي لميزان القوى العسكري الذي كان يميل على نحوٍ صارخ لمصلحة فرنسا التي كان جيشها رابع أكبر الجيوش في العالم في ذلك الوقت. ونظراً إلى هذا الواقع، استلهمت استراتيجيتهم مقولة هو شي منه "لقاء كلّ تسعة تقتلونهم منّا سوف نقتل واحداً منكم، وسوف ترحلون في النهاية". وأرادت جبهة التحرير الوطني أن تخلق جوّاً من العنف وانعدام الأمن الذي لن يقوى الفرنسيون على احتماله في النهاية، وأن تدوّل الصراع، وتلفت انتباه العالم إلى الجزائر. وبناءً على هذا المنطق، قرَّر القائدان الثوريان عبان رمضان والعربي بن مهيدي نقل حرب العصابات إلى مدن البلاد، ولاسيما إطلاق معركة الجزائر في أيلول/ سبتمبر 1956.

     ما من سبيل لفهم هذه اللحظة الأساسية والدراماتيكية للتضحية في الثورة الجزائرية أفضل من مشاهدة الفيلم الواقعي الكلاسيكي معركة الجزائر الذي أخرجه جيلو بونتيكورفو في عام 1966. هذا الفيلم الذي مُنع في البداية في فرنسا، يعيد تمثيل بعض اللحظات الحاسمة للمقاومة الجزائرية في العاصمة والقمع الفرنسي الذي ووجهت به. ففي إحدى اللحظات الدرامية، يعمد الكولونيل ماتيو، وهو تحريف خفيف للجنرال ماسو (الذي كان قد قاتل أيضًا في الحرب الهندو صينية الأولى)، إلى تقديم القائد في جبهة التحرير الوطني العربي بن مهيدي في مؤتمر صحفي بعد أن وقع في الأسر، فيسأله أحد الصحفيين عن أخلاقية إخفاء القنابل في سلال تسوّق النساء: "ألا تعتقد أنّه من الجبن استخدام سلال النساء وحقائبهن لنقل المتفجرات التي تحصد كثيراً من الأرواح؟" فيردُّ بن مهيدي: "أليس أكثر جبنًا أن تلقوا  قنابل النابالم على قرى عزلاء، فيسقط من الضحايا الأبرياء ما هو أكثر بألف مرة؟ أعطونا قاذفاتكم وخذوا سلالنا".

     قامت جميلة بوحيرد، الأيقونة الثورية التي غدت شخصية ملهِمة في العالم العربي كلّه (لاسيَّما بين الفلسطينيين) وأبعد منه، بدور رئيس في معركة الجزائر. وكانت، إلى جانب زهرة ظريف وسامية لخضاري ووالدتها، واحدة من النساء اللواتي زرعن القنابل في أنحاء المدينة. وبعد أسرها واغتصابها وتعذيبها الشديد، تحدت آسريها وجلّاديها المستعمِرين ببطولة: "أعرف أنكم ستحكمون عليّ بالإعدام، لكن لا تنسوا أنكم بقتلي تغتالون تقاليد الحرية في بلدكم لكنكم لن تمنعوا الجزائر أن تصبح حرة مستقلة".

     كذلك كانت زهرة ظريف، البطلة الأخرى من بطلات حرب الاستقلال الجزائرية والتي اشتهرت بتفجيرها مقهى الميلك بار في عام 1956، جزءًا لا يتجزأ من شبكة التفجيرات التابعة لجبهة التحرير الوطني في الجزائر العاصمة، وعملت مع علي لابوانت وجميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي وياسف سعدي، قائد المنطقة المستقلة في الجزائر العاصمة. وأُسرت في النهاية وحكمت عليها المحكمة العسكرية في الجزائر بالسجن 20 عامًا مع الأشغال الشاقة بتهمة الإرهاب. وسُجِنت ظريف في قسم النساء بسجن بارباروسا. وكتبت في مذكراتها عن دور جميلة بوحيرد: "لديهم ماريانهم، ولدينا جميلتنا ... كانت، بالنسبة إلى فرنسا الاستعمارية، "روح الإرهاب". وأصبحت بالنسبة إلينا وإلى جميع الشعوب المُحبّة للحرية روح التحرير ورمز الجزائر في الحرب، جميلة وثائرة" (الظريف 2013).

     لا تزال أصداء نضال بوحيرد البطولي وشجاعتها ونكرانها للذات وصمودها وتضحيتها تتردَّد في فلسطين وتغذي القلب النابض وتلهم لغة المقاومة والثورة والنضال من أجل التحرر وأَخْيِلَتَهَا. وقد أخذت المناضلة الفلسطينية من أجل الحرية ليلى خالد، هذه المهمة من بوحيرد على عاتقها، مع كثيرات.

     في النهاية، سُحِقت الثورة المدينية في الجزائر بلا رحمة، باللجوء إلى التعذيب المنهجي لانتزاع المعلومات، بما في ذلك كهربة الأعضاء التناسلية (Alleg 1958). وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1957، فُكِّكت شبكة جبهة التحرير الوطني في الجزائر، بعد نسف البيت الذي كان يختبئ فيه القائد الأخير المتبّقي، علي لابوانت، مع عمر الصغير وحسيبة بن بوعلي وحميد بوحميدي، في القصبة. وعلى الرغم من هذه الخسارة العسكرية، حققت جبهة التحرير الوطني نصراً دبلوماسياً؛ إذ عُزلت فرنسا دولياً بسبب أساليب القمع الفاضحة التي استخدمتها.

     لم تكن التجربة الجزائرية في حرب المدن، كجزء من النضال لتصفية الاستعمار، بالتجربة غير المسبوقة. فقبل أكثر من عقد من تفجير جبهة التحرير الوطني قنابلها في الجزائر، خاض الفيتناميون معارك مدينية كبرى في سايغون وهايفونغ وهانوي. وكانت معارك بالغة القسوة أيضًا، إذ استخدم الفرنسيون الدبابات والمدفعية والقاذفات لقصف المواقع المدينية الفيتنامية. ومثل القصبة في الجزائر العاصمة، كان الحي القديم في هانوي النقطة الأساس للمعركة على تلك المدينة (1946-1947). وخلال القتال، أصدر القائد العام لفيلق مشاة الشرق الأقصى الفرنسي، الجنرال جان فالي، تعليماته لمرؤوسيه: "اضربوهم ضرباً شديداً بالمدافع والقنابل.... كي ننهي المقاومة ونثبت لعدونا تفوق قدراتنا الساحق" (Goscha 2022). وفي نهاية المعركة، كانت "قصبة" هانوي أنقاضاً.

     لم يكن لمستوى العنف الذي مارسته القوات الفرنسية في أرجاء سهل النهر الأحمر وبقية فيتنام العليا، منذ كانون الثاني/ يناير 1951 وحتى منتصف عام 1954، مثيل في تاريخ حروب تصفية الاستعمار في القرن العشرين. سقط من الفيتناميين أكثر من مليون قتيل ومئات آلاف الجرحى، بما في ذلك ضحايا التعذيب، في حين بلغت خسائر فيلق المشاة الفرنسي 130 ألف رجل. وبالمثل، بلغ العنف في الجزائر مستويات مذهلة. إذ تشير التقديرات الرسمية إلى مقتل مليون ونصف المليون جزائري في الحرب التي استمرت ثماني سنوات وانتهت في عام 1962. واحتُجز ربع السكان (2.35 مليون) في معسكرات اعتقال، ونزح ما لا يقلّ عن ثلاثة ملايين شخص (نصف سكان الريف)، ودُمرت أو أحرقت حوالي 8000 قرية، وأُحرقت مئات آلاف الهكتارات من الغابات أو جُردت من أوراقها بقنابل النابالم، وزُرعت الألغام في الأراضي الزراعية أو أُعلنت "مناطق محظورة"، وأُهلِكَت الماشية في البلاد (Bourdieu and Sayad 1964).

     في كلتا الحالتين (الجزائر وفيتنام)، اشتمل العمل القذر الذي قام به المستعمِر انتقاماً من أعمال المقاومة الجريئة على نزع إنسانية "الآخر" بأشدّ وأعمق ما يكون النزع، كما اشتمل على إضفاء طابع عرقي على الكراهية. فبالنسبة إلى الفرنسيين وحلفائهم، لم يكن الفيتناميون والجزائريون بشراً عاديين، بل قطاع طرق ومجرمين وإرهابيين. أوضح جندي فرنسي شاب فقد أحد أصدقائه في فيتنام ما يريد أن يفعله بالفيتناميين: "علينا أن ندمرهم جميعًا، بلا شفقة، هؤلاء همج فعليون" (Goscha 2022). وكانت ممارسة التعذيب متفشّية داخل الجيش الفرنسي قبل سنوات من وصول القوات المظلية الفرنسية إلى الجزائر. وتستخدم إسرائيل في فلسطين الآن آليات نزع الإنسانية وتكتيكاته ذاتها، إذ يصف الجنرالات والمسؤولون والشخصيات الإعلامية الإسرائيلية الفلسطينيين بأنّهم "حيوانات بشرية" و"جرذان" و"برابرة" و"إرهابيون" لتبرير ما يرتكبونه من جرائم حرب وتعذيب ومذابح إبادة جماعية. الاستعمار واستراتيجياته العرقية ما انتهيا بعد.

     في فيتنام والجزائر وفلسطين، لم تقتصر ممارسة هذه الاستراتيجيات على القوات المسلحة للقوى الاستعمارية، بل قام المستعمِرون/ المستوطنون أنفسهم بدور كذلك. فحين استدعت الحكومة الفرنسية مظليي النخبة لسحق الانتفاضة في الجزائر، وساروا في شارع المدينة الرئيس، خرجت حشود المستوطنين الفرنسيين المغتبطين تحيّيهم. حدثت مشاهد مماثلة في سايغون في عام 1946، حين خرج المستوطنون زرافات ووحداناً للترحيب بالجنود الذين يحررونهم من حكم "السكّان الأصليين" (Goscha 2022). وفي كلتا الحالتين، كان ثمة تحالف وثيق بين الجيش وجماعات المستوطنين التي أذعنت للعنف الاستعماري والقمع الوحشي. واليوم، بالمثل، يدعم مجتمع المستوطنين الإسرائيليين بأغلبيته الساحقة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة ويسعى إلى حرب شاملة في المنطقة بأكملها. وتُظهِر مقاطع فيديو وصور لا حصر لها إسرائيليين يهتفون بموت الفلسطينيين ويحتفلون به ويكشفون عن رغبتهم في رؤيتهم يختفون من الأرض التي انتزعوها عنوةً منهم.

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

فلسطين: تأخذ على عاتقها مهمة الثورة المناهضة للاستعمار

"ما الذي أرمي إليه؟ هذه الفكرة: أنّه لا أحد يستعمر ببراءة، أنّه لا أحد يستعمر من دون قصاص أيضاً؛ أنَّ أمّةً تستعمِر، أنَّ حضارةً تبرر الاستعمار والقوة تالياً هي حضارة مريضة بالفعل، حضارة مريضة أخلاقياً..." إيميه سيزار (سيزار 2023)

"استذكرْنا كلَّ المآسي، كلَّ الظلم، استذكرنا شعبَنا والظروفَ التي يحيا فيها، اللامبالاةَ الباردةَ التي نظر بها العالمُ إلى قضيّتنا. وهكذا شعرْنا بأنّنا لن نسمح لهم بتدميرنا". جورج حبش، 1970.

     ما علاقة الكفاحين الجزائري والفيتنامي بالكفاح الفلسطيني اليوم؟ الجواب هو أنَّ الكفاح التحرري الفلسطيني يقع بلا هوادة ضمن ذلك المسار الطويل من الجهود الثورية المناهضة للاستعمار. وعلى الرغم من خصوصيات هذه الكفاحات الثلاثة واختلافاتها، لا بدّ أن تُفهَم على أنّها كفاحات تحررية مناهضة للاستعمار. وما تثبته الأحداث في فلسطين أيضاً، بما في ذلك الإبادة الجماعية الحالية، هو أنَّ العالم الاستعماري لم يُفكَّك بعد بأكمله.

     تركّز الأقسام أدناه على التقاطعات بين الكفاح التحرري الفلسطيني ونظيريه الجزائري والفيتنامي.

فلسطين والجزائر: شقيقتان في العالم العربي

ذهبت بطائرة جزائرية وحراسة جزائرية كأنني مبعوث جزائري مش بس مبعوث فلسطيني. يريد [بومدين] أن يقول للعالم أن هذا الموفد الفلسطيني اللي أسمه ياسر عرفات مش جاي لوحده، لا، الجزائر وراه قلباً وقالباً". ياسر عرفات 

     لأسباب واضحة، ثمة صلات متعددة بين الكفاحين التحرريين الثوريين الفلسطيني والجزائري. أحدها هو التجربة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية واللاإنسانية والإبادية العميقة التي تعرَّض لها الشعبان، على نحو فريد في المنطقة العربية. وتشارك هذه التجربة هو ما يدفع الثوار الفلسطينيين لأن ينظروا بإعجاب واحترام إلى إخوانهم وأخواتهم الجزائريين، في حين يرى الجزائريون في المقاومة الفلسطينية وجهودها الثورية صورة ثورتهم على المستعمرين الفرنسيين. لقد ألهمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية استراتيجية الكفاح المسلح الفلسطينية واتحاد مجموعات سياسية مختلفة تحت راية مشتركة. ولهذا، ليس من المستغرب أن يساعد الجزائريون الفلسطينيين منذ ستينيات القرن العشرين في جميع المجالات: الدعم الدبلوماسي، والمساعدة العسكرية، وتوفير الأسلحة والتمويل.

     بالنسبة إلى جزء كبير من "العالم الثالث"، لاسيَّما تلك البلدان التي كانت لا تزال في قبضة السيطرة الاستعمارية، بثَّ تحرير الجزائر في عام 1962 الأمل وقدَّم نموذجاً للسير على هديه. أصبحت الجزائر العاصمة قبلة ثوّار الأرض -من فيتنام إلى فلسطين إلى جنوب أفريقيا- الذين يرغبون في إسقاط النظام الإمبريالي والاستعماري. وأعلن ميثاق الجزائر للعام 1964 دعم الجزائر "كفاح الشعوب الأخرى في العالم"، بما في ذلك "الكفاح المسلح"، وراحت الجزائر المستقلة توفّر الملجأ والدعم المالي للحركات التي تناضل من أجل الاستقلال وضد العنصرية والاستعمار والإمبريالية في أنحاء العالم.

     في العالم العربي، أقام النظام الجديد في الجزائر علاقات مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان جزءاً راسخاً من الموجة المناهضة للاستعمار التي طردت الفرنسيين والبريطانيين بعد مغامرتهم البائسة في السويس في عام 1956، واشتملت على استقلال تونس والمغرب أيضاً عام 1956، والإطاحة بالملكيات في العراق (1958) واليمن الشمالي (1962). وفي هذه الفترة، اتّخذ الفلسطينيون أيضاً أولى خطواتهم لإعادة بلادهم إلى الخريطة السياسية التي كانت قد أُزيحت منها (Gresh 2012).

     في الفقرات التالية، أعتمد بصورة أساسية على المواد التي جمعها الموقع التعليمي الممتاز حول الثورة الفلسطينية (https://learnpalestine.qeh.ox.ac.uk) الذي أشرف على إعداده الباحثان الفلسطينيان كرمى النابلسي وعبد الرزاق التكريتي، كما أعتمد على The Dig podcast series Thawra، عن الراديكاليات العربية في القرن العشرين.

     انخرطت حركة التحرر الفلسطينية مع الجزائر بنشاط في السنوات التي أعقبت استقلالها في عام 1962، في وقت كانت فيه البلاد ملتقى لشتّى حركات التحرر الأفروآسيوية. وقد وصف الكاتب والسياسي الفلسطيني محـمد أبو ميزر، عضو حركة فتح (حركة التحرير الوطني الفلسطيني) في عام 1962، كيف حصل أول لقاء فلسطيني مع الثورة الكوبية في عام 1964، حين زار تشي جيفارا الجزائر. وكيف راح الفلسطينيون في ذلك الوقت يقيمون علاقات مع حركات التحرر المختلفة من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. كما كانت الجزائر البلد الذي انطلق منه أول وفد فلسطيني إلى الصين في عام 1965.

     يصف أبو ميزر دعم الجزائر للنضال الفلسطيني في ذلك الوقت: 

"من خلال الجزائر، تمت عدة تفاعلات مع حركات التحرير، مع الفيتناميين، مع الصينيين، مع حركات التحرير الأفريقية، كانت ملتقى. ولكن من أهم العلاقات التي كانت موجودة هي مدرسة شرشال العسكرية. من خلال مدرسة شرشال العسكرية دخل بها مجموعة كبيرة من الفلسطينيين ... حتى تلك الفترة، 1963-1964، حركة فتح لم تكن قد أطلقت طلقتها الأولى. ولكن، من خلال الجزائر، أقامت علاقات متعددة، مع المغرب والمغاربة، مع التوانسة، مع الأفارقة، مع الفيتناميين، مع الصينيين، جنوب شرق آسيا، مع أميركا اللاتينية وكوبا في تلك الفترة. وهذه علاقات ليست بالبسيطة وعلاقات ثمينة".

     افتتحت منظمة التحرير الفلسطينية مكتبها في الجزائر في عام 1965. وكان أول رئيس لها (1964-1967)، أحمد الشقيري، معروفًا بدعمه الشديد للقضية الجزائرية: إذ كان ممثلًا للمملكة العربية السعودية ثم لسوريا في الأمم المتحدة في نيويورك، وقام بدور نشط في الدفاع عن الثورة الجزائرية من عام 1955 حتى عام 1962، خلال الدورات السنوية واللقاءات الخاصة. ردّت الجزائر الدَّين عينًا: كان أول دعم علني تتلقاه الثورة الفلسطينية من أيّ حكومة هو دعم الجزائر. وكان ذلك على الصفحة الأولى من الجريدة الرسمية المجاهد، في الأول من كانون الثاني/ يناير 1965، في مقال عنوانه "ثوار الأول من نوفمبر يحيّون ثوار الأول من جانفي".

     في تلك الفترة، افتتحت حركة فتح معسكراً لتدريب المقاتلين الفلسطينيين في الجزائر، خارج إطار مدرسة شرشال العسكرية، بالتنسيق مع رئاسة الأركان الجزائرية، تدرّب فيه عدد كبير من المتطوعين الفلسطينيين من أوروبا والمغرب، وحتى من الولايات المتحدة، ومضى بعضهم إلى تنفيذ عمليات مقاومة، فأصبحوا هم أنفسهم رموزاً للنضال التحرري، مثل محمود الهمشري وغازي الحسيني وعبد الله الإفرنجي.

وصف أبو ميزر دعم الجزائر للكفاح الفلسطيني المسلح قائلاً: 

"من خلال هذا اللقاء ]1967[، تمّت أول صفقة أسلحة من الجزائر إلى فتح، عن طريق محمد إبراهيم العلي [قائد الجيش الشعبي السوري]. وفعلاً ذهبت أول طائرة إلى دمشق فيها أسلحة لفتح ... كانت أول صفقة ... أيام بومدين في 1966، صدر أول دعم مالي رسمي باسم الحكومة الجزائرية لحركة فتح".

     لطالما اعترف ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية من عام 1969 إلى عام 2004، بتضامن الجزائر الثابت الذي لا هوادة فيه مع القضية الفلسطينية، فضلاً عن دعمها الراسخ للجهود الحربية العربية ضد الكيان الصهيوني. على سبيل المثال، أوضح عرفات كيف أرسل الرئيس الجزائري هواري بومدين قوات إلى مصر للقتال في حرب عام 1967 بين العرب وإسرائيل. كما ذهب بومدين إلى القاهرة ودمشق ليسأل عما تحتاجانه في للمجهود الحربي، وزار الاتحاد السوفييتي بعد ذلك ليطلب إرسال دبابات وأسلحة لمصر وسوريا تعويضاً عمّا فقدتاه. ولقد روى عرفات ما جرى في المفاوضات بين بومدين والسوفييت في هذه المرّة:

"قالوا له أعطينا فرصة، قال لهم إذا كانت هذه الفرصة المال فالجزائر ستتحمل المال. ودفع في ذلك الحين شيك بـ 200 مليون دولار، دفعهم  فوراً للاتحاد السوفييتي، وكان زمنها الـ 200 مليون دولار ... كأننا الآن ندفع ألفين مليون دولار اليوم، دفعهم للاتحاد السوفييتي ليسرع في إرسال الأسلحة إلى مصر وإلى سوريا. هذه لا يمكن أن ينساها أحد".

بعد نكسة 1967، أعلن بومدين:

"يحكم علينا التاريخ كخونة ... كمنهزمين ... إذا كان قبلنا هذه الهزيمة... الأمة العربية لن تركع. إذ تعتقد إسرائيل أنها أخذت سيناء والجولان وأخذت الضفة الغربية، فهي تعرف أن العمق العربي يصل لغاية الجزائر... الجزائر لا تقبل الهزيمة، الجزائر لن تقبل الهزيمة أبدًا. هل الأمة العربية استعملت كل الطاقات التي لها، هل الأمة العربية استعملت كل الطاقات البشرية الهائلة، هل الأمة العربية استعملت كل الطاقات المادية الهائلة التي لها اليوم، هل الأمة العربية استعملت كل الأسلحة حتى تقول بأنّها خسرت المعركة؟ لا، لم نخسر الحرب ... لأننا لم نستعمل كل وسائلنا... لم نخسر الحرب لأننا لم نستعمل كل الأسلحة ... إن المعركة ليست مجرّد معركة فلسطينية. صحيح أننا بعيدون من الناحية الجغرافية، ولكن لدينا دور نقوم به". (Boumaza 2015)

     بقيت القوات الجزائرية التي أرسلها بومدين في مصر للدفاع عن حدودها حتى حرب عام 1973 العربية الإسرائيلية، وقاتلت فيها إلى جانب القوات الفلسطينية على جبهة السويس.

     أخيراً، تجلّى دعم الجزائر الفعّال للنضال التحرري الفلسطيني في اختيار عاصمتها الجزائر موقعا لإعلان استقلال دولة فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، خلال الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني.

كل يوم في غزة هناك خام ثين آخر  

     مثل فلسطين والجزائر، لفلسطين وفيتنام تاريخ طويل من الإخاء. ونضال فيتنام من أجل التحرر، ضد فرنسا أولاً ثم ضد الولايات المتحدة، ألهم الفلسطينيين في نضالهم ضد احتلال إسرائيل لأرضهم.

     أحد أوجه الشبه بين النضالين الفلسطيني والفيتنامي هو استخدامهما الأنفاق كتكتيك من تكتيكات حرب العصابات ضد جيش متفوق وأفضل عدّةً وعتاداً. ربما استلهم الفيتناميون استخدام الأنفاق من الشيوعيين الصينيين الذين استخدموها ضد الغزاة اليابانيين، وبدأوا أولاً حفر شبكتهم الواسعة من الأنفاق خلال أربعينيات القرن العشرين، للاختباء من القوات الاستعمارية الفرنسية وشنّ الهجمات عليها. كانت أنفاق كوتشي التي يبلغ طولها 150 ميلاً، وتقع شمال غرب سايغون (مدينة هو شي منه)، معقلًا استراتيجيًا لقوات حرب العصابات الشيوعية، المعروفة باسم الفيت كونغ. وأدّت دورًا حاسمًا في مقاومة الحرب الأمريكية على فيتنام، بما في ذلك العمل كقاعدة عمليات للهجوم تيت في عام 1968. واليوم، تستخدم كلٌّ من حركتي المقاومة الفلسطينية واللبنانية الأنفاق في قتالها ضد إسرائيل. وتعمل الأنفاق في غزة كقاعدة للمقاومة الفلسطينية التي استخدمتها لإلحاق خسائر فادحة بالجيش الإسرائيلي.

     يتمثّل وجه شبه آخر بين تجربة فلسطين وتجربة فيتنام في حجم الدمار الذي أحدثه البغاة المقتدرون. فتدمير إسرائيل لغزة اليوم، يعيد إلى ذاكرة الفيتناميين الغارات الجوية الأميركية في عام 1972. فقد أمر الرئيس الأميركي في حينه ريتشارد نيكسون بقصف العاصمة الفيتنامية الشمالية هانوي خلال فترة عيد الميلاد عام 1972. وبدءاً من 18 كانون الأول/ ديسمبر ولمدة 12 يوماً وليلة متوالية، أُلقي نحو 20 ألف طن من القنابل على هانوي، كما على مدينة هاي فونج الساحلية الشمالية المزدحمة وغيرها من المناطق. وعانى حي خام ثين في هانوي أشدّ الدمار.

     يُفصح ناشطون فيتناميون من الشباب اليوم عن هذه الصلات بين الحرب الإبادية التي تشنها إسرائيل على غزة والحرب الأميركية على فيتنام، وذلك بهدف تقديم القضية الفلسطينية لجمهور جديد. ذلك أنَّ الأصداء التاريخية للحربين، بما فيها صور تدمير مراكز المدن (غزة وخام ثين)، إلى جانب تهديدات الدولتين الباغيتين العنيفة -إذ أعلنت إسرائيل أنها ستسوِّي غزة بالأرض وأعلنت الولايات المتحدة أنها "ستقصف فيتنام الشمالية حتى تعيدها إلى العصر الحجري"- تشكل جزءاً من ذخيرة الرموز المشتركة التي تشير إلى تاريخ مشترك من الحروب الاستعمارية والمقاومة الثورية المناهضة للاستعمار. وتغذِّي هذه التجربة المشتركة شعوراً متجدداً بتضامن عابر للقوميات بين الشعوب المضطهَدة سابقًا والمضطهَدة حالياً.

     هذا التضامن الذي يتجدد الآن، يعود في الحقيقة إلى سنوات طويلة سابقة: إذ بقي دعم فيتنام للشعب الفلسطيني ونضاله التحرري ثابتاً خلال الحرب الباردة وحتى تسعينيات القرن العشرين. ولا شكّ أنَّ هذا يرجع إلى اعتقاد القيادة الفيتنامية أنَّ القضية الفلسطينية تعكس كفاحهم من أجل الوحدة والاستقلال ضد القوى الأجنبية. كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد أقامت علاقات مع فيتنام الشمالية في عام 1968 وأنشأت مكتباً تمثيلياً مقيماً بعد نهاية الحرب في فيتنام في عام 1975. وسرعان ما أصبح المكتب سفارة فلسطين في فيتنام. وفي تسعينيات القرن العشرين، رحَّبت فيتنام بالقادة الفلسطينيين، بما فيهم ياسر عرفات، في مناسبات عديدة. وعلى الجانب الفلسطيني، لخّص الشاعر الفلسطيني محمود درويش روابط الصداقة بين البلدين في عام 1973، مع دخول الحرب في فيتنام مرحلتها النهائية بتوقيع اتفاق باريس للسلام: "في ضمير شعوب العالم، تمَّ نقل الشعلة من فيتنام إلينا". وكانت منظمة التحرير الفلسطينية من بين الأقلية الصغيرة من مجموعات الجنوب العالمي وبلدانه التي أدانت الصين صراحةً لغزوها فيتنام في عام 1979. 

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

Illustration by Fourate Chahal El Rekaby

المعركة طويلة والدرب عسير

"حين تُفتَح بوابات السجن، يطير التنين الحقيقي". هو شي منه (منه 1968)

"يتعلم المقاتل من أجل الحرية بأقسى الطرق أنَّ المضطهِد هو الذي يحدد طبيعة النضال، ولا يُترك للمضطهَد غالباً أيّ خيار سوى استخدام طرائق تعكس طرائق المضطهِد". نيلسون مانديلا (مانديلا 1998).

"غزة كانت وستظل عاصمة الصمود، وقلب فلسطين الذي لا يتوقف عن النبض حتى لو ضاقت علينا الأرض بما رحبت. ... لذا تمسكوا بالأرض كما يتمسّك الجذر بالتربة، فلا ريح تستطيع أن تقتلع شعبًا قرَّر أن يحيا". من الوصية المنسوبة ليحيى السنوار

     رأيتُ في الأقسام السابقة أنَّ ثمّ حاجة لـ(إعادة) وضع النضال التحرري الفلسطيني ضمن المسار الطويل للنضالات المناهضة للاستعمار/ المناهضة للإمبريالية/ المناهضة للفصل العنصري، بما في ذلك نضالات التحرر في هايتي وفيتنام وكوبا والجزائر وغينيا بيساو وجزر الرأس الأخضر وجنوب أفريقيا. وهو، لذلك، نضالٌ يتوجّب دعمه، لا شيطنته. لكن فلسطين، كما كتب إدوارد سعيد مرّة، "هي القضية الأقسى والأصعب من حيث مناصرتها، لا لأنّها ليست عادلة، بل لأنّها عادلة ومن الخطر الحديث عنها رغم ذلك..." غير أنّه في هذه الأوقات من الإبادة الجماعية، لا مجال للصمت: يجب أن نتحدث عن فلسطين بأكبر قدر ممكن من الصدق والعيانية.

     تستلزم تصفية الاستعمار في فلسطين إنهاء الاحتلال، وتصفية نظام الفصل العنصري، وتفكيك إسرائيل بوصفها مشروعاً استعمارياً استيطانياً. ولقد عَمَدَ المستعمِرون والمضطهِدون إلى وصف جميع الثوار المناهضين للاستعمار (أيَّاً تكن أيديولوجيتهم، سواء أكانوا شيوعيين أم قوميين أم محافظين دينيين، إلخ) بأنهم إرهابيون وهمج وبربريون. وردَّت جميع القوى الاستعمارية بوحشية ولا إنسانية على أعمال المقاومة التي قام بها المضطهَدون والمستعمَرون. لذلك حان الوقت لكي نتوقف عن إقامة أي مساواة زائفة بين العنف المشروع (وحق المقاومة) للمضطهَدين والمستعمَرين (الذين يقاتلون من أجل تحررهم) والعنف الأعظم بلا حدود الذي يمارسه المضطهِدون والمستعمِرون، ولا يُستخدم سوى لفرض وضعٍ قائمٍ جائرٍ وقاسٍ. وقد أفصح الثوري الغوّياني والتر رودني عن هذا بالعبارات القوية التالية:

"قيل لنا إنَّ العنف شرّ في حدِّ ذاته، وأنّه، أيَّاً كان سببه، غير مبرر أخلاقياً. فبأي معيار أخلاقي يمكن أن نعتبر عنف العبد لتحطيم أغلاله مماثلاً لعنف سيده؟ بأيّ معيار يمكن أن نساوي عنف السود الذين اضطُهِدوا وقُهِروا وقُمعوا لأربعة قرون بعنف الفاشيين البيض؟ لا يمكن الحكم على العنف الذي يرمي إلى استعادة الكرامة الإنسانية وتحقيق المساواة بالمعيار الذي نحكم به على العنف الذي يرمي إلى الحفاظ على التمييز والقمع". (Rodney 1969)

     على الرغم من كلّ الرعب والدمار المروِّع والمذابح الجماعية التي شهدناها خلال الهجوم الإسرائيلي الإبادي على غزة خلال العام الماضي، فإنَّ حركة التحرر الفلسطينية بشنّها هجمات طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بدأت ما تمكن رؤيته على أنّه بداية نهاية النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. بل إنّه على الرغم من الاغتيالات الموجَّهة لقادة حماس وحزب الله، تبقى قوات المقاومة سليمة وصامدة في ساحة المعركة. ومع أنّه من السابق لأوانه أن نجزم بالأمر، فإنَّ ما يحدث الآن في فلسطين ولبنان قد يتحوّل ليصبح، مثل حوادث 8 أيار/ مايو 1945 في الجزائر، الفصل الأول في حرب شعبية طريلة لتفكيك مستعمرة استيطانية. لقد حطمت حماس أسطورة إسرائيل التي لا تُقهر، وتُثبت، من خلال مقاومتها البطولية في غزة الآن، أنّها قائدة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال والفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني، حاصدةً قدراً عظيماً من التعاطف في أرجاء العالم العربي وخارجه. ليست الحرب غير المتكافئة الجارية مجرد حرب بين حماس وإسرائيل، بل هي حرب تحرير فلسطينية، أو كما تصورها قائد حماس الراحل يحيى السنوار: "أردت أن تكون هذه المعركة صفحة جديدة في كتاب النضال الفلسطيني، حيث تتوحد الفصائل، ويقف الجميع في خندق واحد، ضد العدو الذي لم يفرق يومًا بين طفل وشيخ، أو بين حجر وشجر". وهي أيضًا حرب إقليمية بالفعل، إذ تقاتل إسرائيل وحلفاؤها الغربيون (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل رئيس) بدرجات متفاوتة من الشدّة على خمس جبهات: غزة/ الضفة الغربية، ولبنان، واليمن، والعراق/ سوريا، وإيران.

     يجدر بنا أن نتذكر أنَّ الكفاح المسلح ضروري في ظروف معينة، كما هو الحال بالنسبة إلى فلسطين المحتلة في كفاحها ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. لكنّه من الأهمية بمكان أن نُخضع الكفاح المسلح لطيفٍ أوسع من السياسات الثورية، كي نضمن ألّا يُصبح اعتباطياً أو عشوائياً في اختيار أهدافه. وفي مثل هذه المقاربة، يمكن فهم الكفاح المسلح على أنَّه أداة لتعبئة الدعم السياسي، لا على أنّه تكتيك يصدّ/ يُنفّر الحلفاء المحتملين. ولذلك تحتاج المقاومة الفعّالة، كما يرى الباحث الثوري الباكستاني إقبال أحمد، استراتيجيةً مرنة تمزج تكتيكات قتالية وسياسية شتّى، تبعاً للموقع الذي يشغله العدو والسياق السياسي الأوسع. وبحسب هذا الفهم، ينبغي ألّا نعتبر العنف واللاعنف استراتيجيتين متعارضتين في ثنائية ضدّية، يتعيّن على الشعوب المضطهَدة أن تختار منها هذا الطرف أو ذاك. وعلى تحليلنا للعنف السياسي أن يخرج، إذاً، على الأسس المعيارية/الأخلاقية البحتة التي تستند إليها بعض الإدانات اليساروية لعنف حماس. وعلاوة على ذلك، فإنّ رفض المقاومة المناهضة للاستعمار لأنّها إسلامية هو رفضٌ يعكس آفة الإسلاموفوبيا عميقة الجذور التي استدخلتها، للأسف، بعض أقسام اليسار الأوروبي والأميركي.

     لقد أدركت حركة التحرر الفلسطينية، منذ أيامها الأولى، ضرورة المقاومة المسلحة في مواجهة نظام استعماري عنيف وحشي قائم على الفصل العنصري والاحتلال. كما أدركت، في الوقت ذاته، مثل شقيقتيها في الجزائر وفيتنام، أنَ إلحاق الهزيمة العسكرية بقوة عسكرية رفيعة التطور (مدعومة من المعسكر الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة) مهمة شاقة. ولذلك يحتاج الكفاح المسلح الفلسطيني، كي ينجح ويحقق أهدافه، أن يرتكز بقوة على استراتيجية سياسية ثورية أوسع وأن تقوده جبهة موحدة مناهضة للاستعمار.

     يمكن أن نبيّن صحة هذه الأطروحة من خلال الحالة الجزائرية، وتحديداً من خلال المقاربة التي اعتمدها عبان رمضان. فقد عَمِلَ رمضان، الملقَّب بمهندس الثورة من أجل استقلال الجزائر، على تنظيم البنى السياسية والعسكرية المختلفة للثورة الجزائرية وعلى إقامة جبهة موحدة قوية تعمل مع قوى سياسية أخرى، لا سيما من خلال مؤتمر الصومام في آب/ أغسطس 1956 (حربي 1983). ورمضان، إلى جانب رفاق في السلاح آخرين، هو الذي أكَّد على أولوية العمل السياسي على العمليات العسكرية، لكن رمضان أيضاً هو الذي أصرَّ على نقل الحرب إلى العاصمة الجزائر، في معركة الجزائر. لم تنتصر جبهة التحرير الوطني الجزائرية في الحرب ضد الفرنسيين عسكرياً، لكنّها فازت بالمعارك السياسية والدبلوماسية الأشدّ حسماً، من حيث عزل النظام الاستعماري الفرنسي ونزع الشرعية عنه وبناء تحالفات قوية على الساحة الدولية، بما في ذلك في مؤتمر باندونغ في عام 1955، وفي المحافل الأفريقية، وفي أوروبا، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنوات التالية.

     من الواضح أنَّ السياق السياسي العالمي قد تغيَّر إلى حدٍّ بعيد منذ خمسينيات القرن العشرين وستينياته. فنحن لم نعد نعيش في عصر التحرر الوطني والعالَمثالثية. الأسوأ من ذلك بكثير، أنَّ حقبتنا هي حقبة يدوس فيها الأقوى على القانون الدولي علانيةً، وتنهار المؤسسة الليبرالية الغربية لحقوق الإنسان والديمقراطية (السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية) أمام أعيننا وتُظهر ألوانها الإبادية المؤمنة بتفوق العرق الأبيض. والساحة الإقليمية ليست أفضل حالاً: إذ تجد فلسطين نفسها محاطة بأنظمة عربية رجعية وخائنة باعت القضية الفلسطينية للولايات المتحدة وإسرائيل. ولا بدّ من أخذ هذا المناخ بالغ التحدي في الحسبان عند السعي إلى اجتراح استراتيجية سياسية فعالة من شأنها أن توحِّد القوى الفلسطينية المناهضة للاستعمار وتفصح بنجاعة عن المهام الثورية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. وكجزء من هذه الاستراتيجية متعددة المستويات، فإنَّ تعزيز المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) أمورٌ تحظى بأهمية قصوى.

     أيقظت غزة العالم، وأصبحت فلسطين الكفاح الأمثل الواسم لعصرنا. فلسطين هي محكّ الحركات والمنظمات التقدمية، وهي أيضًا محكّنا جميعاً ومحكّ كلّ واحد منا. وكما يرى آدم هنية بحقّ، فإنّ الكفاح التحرري الفلسطيني ليس مجرد قضية أخلاقية وحقوقية: هو في الأساس نضال ضد الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة والرأسمالية الأحفورية العالمية، لأنَّ الركيزتين الرئيستين للهيمنة الأمريكية في المنطقة وخارجها هما إسرائيل من جهة، المستعمرة الاستيطانية الأوروبية الأمريكية، وممالك الخليج الرجعية الغنية بالوقود الأحفوري من جهة أخرى، تلك الممالك التي تشكل نقطة محورية رئيسة في الرأسمالية الأحفورية العالمية. وبذلك تكون فلسطين جبهة عالمية ضد الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية الأحفورية والإيمان بتفوق العرق الأبيض. ويكون نجاح النضال (المقموع والمهزوم حتى الآن) في الإطاحة بالأنظمة العربية الرجعية في المنطقة وفي مقدمتها ممالك الخليج ومصر والأردن- أمراً ضرورياً لانتصار الكفاح الفلسطيني. ومما كشفته حرب إسرائيل الإبادية أيضاً، أبعد من خواء (اللا) نظام الدولي "القائم على القواعد"، هو الإفلاس الأخلاقي والسياسي للأنظمة العربية التي يُبدي بعضها أنّه يفعل شيئًا من دون أن يحرك ساكناً في الحقيقة، في حين أنَّ بعضها الأخر متواطئ نَشِط في الجرائم الصهيونية (لاسيَّما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن والمغرب). لقد باتت هذه الحقيقة جليّة تمامًا للشعوب العربية على مدار العام الماضي. ومن شأن هذا أن يعزز عزمها على الإطاحة بهذه الأنظمة في السنوات القادمة (وفي الذاكرة الشعارات الثورية السودانية والجزائرية في عامي 2018 و2019 "فليسقطوا جميعًا").

     ما بذله الفرنسيون وحلفاؤهم من محاولات عنيدة للحفاظ على الإمبراطورية في الهند الصينية في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته للدفاع عن مواقعهم في أفريقيا، ها هي تنعكس اليوم في ما تفعله الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفاؤهما للحفاظ على الإمبراطورية في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع ضد محور المقاومة، المتمثل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحزب الله والمنظمات الشقيقة في المقاومة اللبنانية، إلى جانب حماس وشركائها في المقاومة الفلسطينية، وكذلك أنصار الله (الحوثيين) في اليمن وتشكيلة من مجموعات المقاومة العراقية. وبهذا يتضح للقوى المناهضة للإمبريالية على مستوى العالم أنَّ لضرب الإمبريالية في فلسطين والشرق الأوسط أهمية استراتيجية قصوى لخدمة الثورة العالمية، على حدّ تعبير المثقف والأديب والمناضل الثوري الفلسطيني غسان كنفاني الذي أوردناه في بداية هذا المقال.

     لم يكن غرضي خلال هذه المساهمة أن أمجّد الثورات وقوى المقاومة المختلفة المناهضة للاستعمار      أو أُرَمْنِسُها بدون حسّ نقدي، إذ كانت لها جميعاً مشاكلها وتناقضاتها ونواقصها وإخفاقاتها. بل إنَّ الوقائع "ما بعد الاستعمارية" في البلدان "المستقلة" التي هي بؤرة هذه المقالة الطويلة تشير إلى شِرَاك الوعي الوطني وإفلاس بعض البرجوازيات الوطنية التي برع فانون في وصفها في كتابه معذّبو الأرض. لكننا، بدلاً من أن نتبنّى موقفاً عدمياً ونعلن بأثر رجعي عدم جدوى هذه الجهود الثورية، علينا أن ننظر إلى هذه الثورات بوصفها سيرورات طويلة الأمد مستمرة، في مدّ وجزر، لا بوصفها حوادث إمّا تنجح أو تفشل في لحظة بعينها.

     كي نجري تقويماً مادياً وافياً للكفاح الثوري عموماً، من المهم أيضاً أن نأخذ في الاعتبار أبعاد هذا النضال الوطنية والإقليمية والدولية في آنٍ معاً. كان التضامن العابر للقوميات بين الشعوب المضطهَدة والمستعمَرة، ولا يزال، قوةً دافعة في تغيير العالم. ونحن نشهد حالياً قوة هذا التضامن بين بلدان الجنوب وأهميته، في شكل التزام بلدان الجنوب بالقضية الفلسطينية والجهود الرامية إلى عزل نظام الاستيطان الإجرامي في إسرائيل. وتمثّل دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل لانتهاكها اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبتها أحد هذه الجهود، وهو تطور تاريخي: فالرجال والنساء الأفارقة (وحلفاؤهم) يزعزعون الاستعمار والإيمان بتفوّق العرق الأبيض، و"يقاتلون لإنقاذ الإنسانية والنظام القانوني الدولي ضد الهجمات الوحشية التي تدعمها/ تمكّنها معظم دول الغرب" على حدِّ تعبير المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز. ورؤيتهم يخوضون هذه المعركة "سوف تبقى واحدة من الصور الواسمة لعصرنا... ما حدث في لاهاي سوف يصنع التاريخ مهما حدث". لقد رأينا في لاهاي ممثلي الأمّة التي عانت من نظام الفصل العنصري وهزمته وهم يقفون دفاعاً عن اللياقة الإنسانية الأساسية والعدالة والتضامن، ويمدون أيديهم لأمّة أخرى تخضع للاضطهاد الاستعماري والإبادة الجماعية وتقاومهما مؤكّدةً حقّها في الحرية والعدالة. ها هو الجنوب (مهما تكن عيوبه وتناقضاته) يعلّم الشمال "المحبّ لحقوق الإنسان والديمقراطية" درساً في الأخلاق السياسية. وها هم ورثة مانديلا يكرِّمون ذكراه بأفعالهم ويؤكّدون صدق كلماته: "... نحن نعلم جيداً أنَّ حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين"3.

     يدعم كثير من بلدان الجنوب العالمي دعوى جنوب أفريقيا. من بينها تركيا وإندونيسيا والأردن والبرازيل وكولومبيا وبوليفيا وباكستان وناميبيا وجزر المالديف وماليزيا وكوبا والمكسيك وليبيا ومصر ونيكاراغوا ومنظمة التعاون الإسلامي (التي تتألف من 57 عضواً) وجامعة الدول العربية (التي تتألف من 22 عضواً). في المقابل، تدعم القوى الغربية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا) إسرائيل. وقد تلقت ألمانيا توبيخاً قويا من ناميبيا، مستعمرتها السابقة، تدين فيه موقفها في الدفاع عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة وعدم التعلّم من تاريخها الإجرامي في ارتكاب إبادتين جماعيتين في القرن العشرين (إبادة الهيريرو والناماكوا في ناميبيا والمحرقة في أوروبا). علاوة على ذلك، دعت تشيلي والمكسيك المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. وهذا، إلى جانب قطع عشرات الدول علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، والخطوات التي اتخذتها كولومبيا (وربما جنوب أفريقيا قريبا) لحظر صادرات الفحم إلى إسرائيل، يشير إلى خط حدود واضح بين الشمال والجنوب (وإن كان مع بعض التناقضات الصّارخة، لاسيَّما عندما يتعلق الأمر بدول مثل الأردن ومصر). وتعزّز هذه التطورات الاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب حيث يؤكّد الجنوب ذاتَه سياسياً واقتصادياً. لسنا بعد في مرحلة باندونج جديدة، لكنَّ هذا المنعطف التاريخي سوف يسرِّع من تراجع الإمبريالية الأمريكية (أيديولوجياً على الأقل) ويزيد تناقضاتها.

     تمثّل جلسات محكمة العدل الدولية والتطورات التي أعقبتها تحديًا خطيراً للعالم الأبيض (حيث الأبيض ليس مجرد فئة عرقية بل بناء أيديولوجي أيضًا)، وللمؤسسة الغربية، ولصرحها المنهار "لحقوق الإنسان"، ولـ"كونيتها"، وقد تسرّع من انهيار (اللا) نظام الدولي "القائم على القواعد". من الواضح تماماً أنَّ الديمقراطية البرجوازية الغربية/ الشمالية تعتريها أزمة شرعية عميقة (إن لم تكن مميتة)، وأنَّ هيمنتها العالمية (بالمعنى الغرامشي) تخبو. وهذا يفسر التحرك الواضح نحو الحرب، والاعتماد المتزايد عليها، وترسيخ منطق عسكري/ إبادي. تدخل الرأسمالية الإمبريالية الآن مرحلتها البربرية الصريحة. وكما كتب غرامشي: "القديم يحتضر والجديد لا يقوى أن يولد؛ في هذه الفترة الفاصلة تظهر مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراض المرضية الرهيبة".

     في وقت يُنحي فيه النظام السياسي والاقتصادي الدولي باللائمة على ضحاياه لا على أولئك الذين يسندونه، ويحوّل أي انتباه أو اهتمام بعيدًا عن آليات السيطرة، ويلجأ إلى تفسيرات لفشله ثقافوية (عنصرية غالباً)، يغدو من الأهمية بمكان بالنسبة إلينا أن ننكبّ على المشاريع والتجارب الثورية والتقدمية السابقة. نحن بحاجة إلى مثل هذا الوضوح في القصد لاجتراح قطيعة مع التاريخ الطويل من النهب والعنف والظلم الذي تحملته غالبية الكوكب. يمكن لهذا أن يساعدنا أيضًا في التغلب على دعاية نظام استعبادي يموّه سلاسله وأغلاله باستخدام عبارات لطيفة مثل "اليد الخفية للسوق" و"العولمة السعيدة" و"مسؤولية الحماية الإنسانية"؛ أو "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

     بات من الواضح تمامًا أن الأغلبية المضطهَدة لم تعد قادرة على التنفس في نظام ينزع إنسانية البشر، نظام يرسّخ الاستغلال المفرط، نظام يسيطر على الطبيعة والإنسانية، نظام يولّد قدراً هائلاً من انعدام المساواة والفقر المدقع، نظام يميل إلى الحرب والعسكرة، ويسبب تدميراً بيئياً وفوضى مناخية. ولحسن الحظ، أنّ ثورات وحركات تمرد معادية للنظام في أساسها تحصل في جميع القارات وفي المناطق كلّها. غير أنّه كي تنجح أعمال المقاومة هذه، المتقطعة والمحدودة جغرافيًا في أكثرها، تحتاج إلى تجاوز المحلي والوصول إلى العالمي؛ تحتاج إلى إقامة تحالفات قوية في مواجهة الرأسمالية والاستعمار/ الإمبريالية والنظام الأبوي والإيمان بتفوق العرق الأبيض.

     هل يمكن لضروب الكفاح المعاصرة المختلفة -من الانتفاضات العربية والأفريقية والآسيوية والأميركية اللاتينية إلى حركة حياة السود مهمة، ومقاومة الجماعات الأصلية والحركة العمالية، ومن الحركات من أجل العدالة المناخية والسيادة الغذائية والسلام، إلى مخيمات الطلاب ومناهضة الفاشية/ مناهضة العنصرية والمقاومة الفلسطينية/ اللبنانية- أن تتقارب وتبني تحالفات عالمية قوية تتغلّب على تناقضاتها ونقاطها العمياء؟ هل يمكن أن تبشّر بلحظة جديدة نسائل فيها الأسس الاستعمارية لمحننا الحالية ونقوم حقًا بتصفية استعمار سياستنا واقتصاداتنا وثقافاتنا ومعارفنا؟ مثل هذا الهدف ليس ممكناً فحسب، بل ضروري، وضروب التضامن والتحالف العابرة للقوميات هي أمر حاسم في الكفاح العالمي لتحرير معذّبي الأرض. وهنا، يمكن أن نستلهم من الماضي، بالنظر إلى مرحلة تصفية الاستعمار، وباندونغ، والعالمثالثية، وتجارب القارات الثلاث، وتجارب أممية مماثلة.

     ثمَّة تجاهل لبعض التواريخ، وإسكات لسواها للحفاظ على ضروبٍ معينة من الهيمنة وإخفاء حقبة ملهمة من الروابط الثورية بين ضروب الكفاح التحرري في قارات مختلفة. ولا بدّ أن ننبش الماضي لنعيد الصلة مع هذه التواريخ، ونتعلّم منها ونتبيّن بعض نقاط التقارب المحتملة مع ضروب الكفاح الجارية. نحتاج، على سبيل المثال، أن نتذكّر، ونتعلّم من، واقعة أنّ الجزائر المستقلة أصبحت رمزًا قويًا للكفاح الثوري وباتت نموذجاً لجبهات تحرير مختلفة في أنحاء العالم. وأنَّ سياستها الخارجية الشجاعة جعلت العاصمة الجزائرية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته قبلة الثوّار، كما سبق القول. ولقد أعلن أميلكار كابرال، الزعيم الثوري من غينيا بيساو، في مؤتمر صحفي على هامش المهرجان الأفريقاني الأول الذي عقد في الجزائر العاصمة في عام 1969: "خذ قلمًا وسَجِّل: يحج المسلمون إلى مكّة، والمسيحيون إلى الفاتيكان أمّا حركات التحرر الوطني فتحجّ إلى الجزائر!" ويجب أن نسجّل، بالمثل، واقعة أنَّ كفاح فيتنام ضد الإمبريالية الأمريكية في ستينيات القرن العشرين كان أيضًا جامعاً للحركات التقدمية ومؤثّراً في تصاعد ثورة اجتماعية عالمية أدَّت إلى احتجاجات عام 1968.

     هذا المنظور العالمي لضروب كفاحنا هو ما يَلزَم التأكيد عليه، للتغلب على القيود والحدود الكثيرة المفروضة على حركاتنا واعتناق أممية جذرية من شأنها أن تعزِز التضامن على نحو فاعل. ومن الضروري أن نعيد اكتشاف التراث الثوري للعالم العربي وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية والجنوب العالمي، كما دُوِّنَ في أفعال وأقوال عقول عظيمة مثل جورج حبش ومهدي عامل وفرانز فانون وأميلكار كابرال وتوماس سنكارا ووالتر رودني وغسان كنفاني وسمير أمين وتشي جيفارا وهوشي مينه وماو تسي تونج، على سبيل المثال لا الحصر. نحتاج إلى إحياء المشاريع الطموحة لستينيات القرن العشرين التي سعت إلى الانعتاق من النظام الإمبريالي الرأسمالي. للبناء على هذا التراث الثوري، واستلهام أمله المتمرد وتطبيق منظوره الأممي على السياق الحالي، أهمية قصوى بالنسبة إلى فلسطين، وسواها من ضروب الكفاح التحرري الأخرى في العالم برمّته.

     في ختام كتابه "معذبو الأرض"، كتب فانون:

هيّا، إذاً، يا رفاق؛ إنَّه ليجدر بنا أن نقرّر حالاً تغيير طرائقنا. لابدَّ أن نرجّ الظلام الثقيل الذي أُغرقنا فيه ونخرج منه. لابدَّ للنهار الجديد الذي بات قريبًا أن يجدنا راسخين، حكماء، حازمين. ... لا نضيّعن الوقت في ابتهالات عقيمة ومحاكاة تثير الغثيان. فلندع هذه الأوروبا التي لا تني تتحدث عن الإنسان، لكنها تقتله حيثما وقعت عليه، على كلّ ناصية في العالم. ... هيّا، إذاً، يا رفاق، لقد انتهت اللعبة الأوروبية أخيرًا؛ وعلينا أن نجد شيئًا مختلفًا. يسعنا اليوم أن نفعل ما نشاء، على ألّا نقلّد أوروبا، على ألّا تهوسنا الرغبة في اللحاق بأوروبا. ... من أجل أوروبا، من أجل أنفسنا، ومن أجل الإنسانية، يا رفاق، لابدّ أن نفتح صفحة جديدة، وأن نُعْمِل مفاهيم جديدة ونحاول أن نخلق إنساناً جديداً. (فانون 1961 

     إنّه لعلى قدر بالغ من الأهمية أن نواصل، بهذه الروحية، مهمات تصفية الاستعمار وفك الارتباط بالنظام الإمبريالي الرأسمالي، كي نستعيد إنسانيتنا التي أُنكرت علينا. وسوف تولد، من مقاومة منطقي الاستيلاء والاستخراج الاستعماريين والرأسماليين، مخيّلات وبدائل مضادة للهيمنة جديدة. لا نستسلمن. لنكن "جيلاً ينهض من رماده أقوى". وفي قراءةٍ لقول مأثور وشهير لدى المسلمين: لنعمل لتغيير جذري كأنه يستغرق أبداً، ولنتهيّأ للأمر كما لو أنّه حاصل غدًا.

     كما هتف الثوار في المهرجان الأفريقاني في الجزائر عام 1969: "تسقط الإمبريالية، يسقط الاستعمار!" "نقارع الاستعمار حتى النصر! نقارع الإمبريالية حتى النصر!"4، يسعنا أن نضيف: "فلسطين حرّة، من النهر إلى البحر".

لآراء الواردة في هذه المقالة هي آراء مؤلفيها فقط ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر أو مواقف TNI.

المراجع العربية كما تظهر في النص

فرانتز فانون (1961) معذبو الأرض. هناك عدّة ترجمات لكتاب "معذبو الأرض"، منها طبعة وزارة الثقافة الجزائرية- موفم للنشر –الجزائر، 2007. وكذلك طبعة مدارات للأبحاث والنشر، 2017.

غسان كنفاني (1972) ثورة ٣٦ - ٣٩ في فلسطين. دار الوطن للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة.

مصطفى الأشرف (2011) الجزائر الأمة والمجتمع. منشورات البرزخ – الجزائر.

سمير أمين (1981) المغرب العربي الحديث. دار الحداثة – بيروت.

بن يوسف بن خدة (2012) جذور أول نوفمبر 1954. دار الشاطبية للنشر والتوزيع – الجزائر.

فرحات عباس (1962) ليل الاستعمار. دار الأداب – بيروت.

عبد الله ساعف (2007) حكاية "أنَه ما" – سيرة جينيرال مغربي في حرب الفيتنام. منشورات دفاتر سياسية – المغرب.

جرمان عياش (1992) أصول حرب الريف. الشركة المغربية المتحدة – الرباط.

زكية داود (2007) عبد الكريم: ملحمة الذهب والدم. وزارة الثقافة – الرباط.

زهرة الظريف (2013) مذكرات مجاهدة من جيش التحرير الوطني - منطقة الجزائر المستقلة. منشورات الشهاب – الجزائر.

إيميه سيزار (2013) خطاب عن الاستعمار. دار الفارابيبيروت.

نلسون مانديلا (1998) رحلتي الطويلة من أجل الحرية. جمعية نشر اللغة العربيةجوهانسبيرغ

هو شي منه (1968) مختارات، حرب التحرير الفيتنامية. دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت.

محمد حربي (1983) جبهة التحرير الأسطورة والواقع. مؤسسة الأبحاث العربية ودار الكلمة للنشر – بيروت.

ماو تسي تونغ (1969) مؤلفات ماو تسي تونغ المختارة المجلد الثاني. دار النشر باللغات الأجنبية – بكين.

المراجع الأنجليزية والفرنسية

Alleg, H. (1958) La Question. Paris: Éditions de Minuit.

Bennoune, M. (1988) The Making of Contemporary Algeria, 1830–1987: Colonial upheavals and post-independence development. Cambridge: Cambridge University Press.

Boumaza, Z. (2015) ‘The West and Pan-Arab Nationalism: The Case of Djamal Abdel Nasser, Houari Boumediene and Saddam Hussein’. Dissertation, Badji Mokhtar-Annaba University, Faculty of Letters, Social and Human Sciences, Department of English. 

Bourdieu, P. and Sayad, A. (1964) Le Déracinement: la crise de l’agriculture traditionnelle en Algérie. Paris: Les Editions de Minuit.

Davis, D. (2007) Resurrecting the Granary of Rome: Environmental History and French Colonial Expansion in North Africa. Athens: Ohio University Press.

Delanoë, N. (2002) Poussières d'Empire. Paris: Presses Universitaires de France.

Goscha, C. (2022) The Road to Dien Bien Phu. New Jersey: Princeton Press.

Gresh, A. (2023) ‘Barbares et civilisés’, Novembre. https://www.monde-diplomatique.fr/2023/11/GRESH/66250

James, C.L.R. (2001) The Black Jacobins: Toussaint L'Ouverture and the San Domingo revolution. London: Penguin Books.

Lacheraf, M. (1965) Algérie, Nation et Société. Algiers: Casbah-Editions.

Rodney, W. (1969) The Groundings with My Brothers. London: L’Ouverture Publications.

Zedong, M. (1953) Report on an Investigation of the Peasant Movement in Hunan. Peking: Foreign Languages Press.