طرأ تحوّلٌ كبير على سياسة الخبز الخاصة بنظام الأسد عندما اندلعت ثورة 2011. حافظ النظام قدر الإمكان –في المناطق التي يسيطر عليها– على شبكاته البيروقراطية وشبكات البنية التحتية. لكن كانت خسارة مناطق البلاد الشمالية من التحديات الرئيسية التي واجهها النظام، وفيها يُنتَج 70 إلى 80 بالمئة من القمح السوري. بحلول عام 2014، انحسرت مساحة الأرض المتوفرة للزراعة من 1.7إلى 1.2 مليون هكتار بسبب الحرب الجارية. وفي العام نفسه، سجّل إنتاج القمح السوري أدنى مستوياته على مدار السنوات الأخيرة، إذ تراجع تحت عتبة الثلاثة ملايين طن، وهو أمر لم يحدث إلا مرتين منذ عام 1995، السنة التي شهدت تحقق الاكتفاء الذاتي. في عام 2012، اضطرّت سوريا إلى استيراد ما بلغ في المتوسط 100 ألف طن قمح شهريًا.[9] أدى تأثير هذه التطوّرات المتضافرة إلى زيادة حادة في أسعار الخبز في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
في عام 2015 أعلن نظام الأسد أنه سيركّز جهوده على «سوريا المفيدة»، أي المناطق التي يراها النظام ضرورية لبقائه، وتشمل حلب ودمشق فضلًا عن المناطق الساحلية بين المدينتين. كانت مناطق شمال سوريا خارج نطاق «سوريا المفيدة» وقد كان النظام مستعدًا لتحويل الأراضي الزراعية هناك إلى أهداف «مشروعة». وضمن تلك الاستراتيجية، دأب نظام الأسد على حرق إنتاج القمح في المناطق الخاضعة للمعارضة، واستخدم الخبز سلاحًا ضد السكان. على سبيل المثال، استهدف النظام مخزن أغذية الراشدية في شمال شرق سوريا، وبدأ قصف طوابير المصطفّين أمام المخابز. وفي الوقت نفسه، حاصر الجيش السوري أحياءَ ومدنًا تسيطر عليها المعارضة، فحرم تلك المناطق من القدرة على إطعام نفسها. إذًا استُخدِم التجويع سلاحًا للحرب، وأصبح القمح –الذي كان يُستخدم لكسب ولاء السكان في العقود السابقة للثورة– سلاحًا قويًا للدمار الشامل منذ عام 2011 في المناطق التي حرّرتها المعارضة. من المهمّ هنا ملاحظة أنّ النظام سعى أيضًا أثناء الثورة إلى تحويل كميات كبيرة من القمح من معاقل المعارضة إلى مناطق سيطرته، وذلك عبر عرض سعرٍ جذّاب على المزارعين المنتجين للقمح، بتمويل من الحكومة الإيرانية.
في القسم التالي، تستعرض الدراسة نموذجًا لاستراتيجية الحرب التي استخدمت الخبز سلاحًا في المناطق المُحَرَّرة، والمقاومة الثورية والشعبية لتلك الاستراتيجية. تستعرض الدراسة محطات مهمة على امتداد دورة الخبز (التي تبدأ من الإنتاج ثم التوزيع وتنتهي باستهلاك الخبز) في منبج، وهي مدينة في شمال سوريا وعدد سكّانها 200 ألف نسمة.
على مدار عام تقريبًا، بدءًا من 2011، نظّمت التنسيقيات في الأحياء السكنية مظاهرات وتحركات سلمية مبتكرة في منبج. بلغت هذه العملية ذروتها في فرار قوات الأمن والشرطة من المدينة في يوليو/تموز 2012، عندما تم تحرير منبج سلميًا. بعد التحرير، شكلت التنسيقيات المجلس الثوري وبدأت العمل بفعالية لتأهيل المدينة وجعلها قابلة للحياة، وذلك رغم العنف الجاري الذي اتخذ صورة غارات جوية أسبوعية من القوات الجوية السورية. وفي تلك الفترة، أعاد سكان المدينة إنعاش مؤسسات منبج، إذ بنوا مؤسسات جديدة من أسفل إلى أعلى، وتوصلوا إلى أفكار مبتكرة لحل مشاكلهم الكثيرة. كما بدأ المجلس الثوري ومجموعات النشطاء في المدينة عمليةَ تطهير واقتلاع لآثار حزب البعث، إذ استعانوا بمزيج من المعارف التقليدية والممارسات التحررية. ويُعدُّ النظام القانوني الذي ابتكرته المدينة في فترة 2012 و2013 مثالاً دالًا. كان ذاك النظام يستند إلى القانون العربي الموحد، والتقاليد القبلية، والمعارف المحلية، مع مناقشة نصوص القانون المختلفة في الاجتماعات الشهرية لمجلس أمناء الثورة.
وفي خلال فترة 18 شهرًا دامت في أثنائها المرحلة الثورية المذكورة (في يناير/كانون الثاني 2014 طُرِدت القوّات الثورية من المدينة عندما احتلها تنظيم الدولة الإسلامية – داعش)، أُعيد تنظيم جغرافيا الخبز بمنبج. أُعيد تشكيلها بالشكل الذي نناقشه في الفقرات التالية.
لا يمكن تعميم سياسة الخبز المتّبعة في منبج بالضرورة على مناطق أخرى، لكنها تقدّم نموذجًا مهمًا لفهم العملية الثورية الدائرة في المستوى الشعبي أثناء الثورة السورية. كان إنتاج وتوزيع الخبز خارج شبكات النظام عملية شديدة الصعوبة، لكنها كانت ضرورية ومهمة. يهدد نجاح هذه العملية صورةَ النظام الذي بنى شرعيّته –كما ناقشنا أعلاه– على إنتاج الخبز بسعر رخيص. مثّلت جغرافيا الخبز الجديدة في منبج والمناطق المحررة تهديدًا وجوديًا للنظام، ما يفسّر تمادي النظام وهجومه المتكرّر على إنتاج القمح وتخزينه واستهلاكه في المناطق المحررة.
ففي تلك الفترة كانت توجد في منبج إحدى أكبر المطاحن في شمال سوريا. وكانت قدرتها الإنتاجية على الطحن تتجاوز ما يصل إلى 450 طن قمح يوميًا، وتكفي تلك الكمية لإطعام مليون نسمة.[10] وتتجاوز هذه الكمية احتياجات منبج والمناطق المحيطة بها. بعد تحرير المدينة في يوليو/تموز 2012، استمرت خلايا موالية للنظام بالتواجد في المدينة، واستمرّ النظام في إمداد منبج بالقمح عبر جهازه البيروقراطي الواسع (أثناء تلك المرحلة الأولى كان هناك أمل باسترداد المدينة سريعًا). وبينما كانت عشرات الفصائل تقاتل النظام في منبج، لم تكن لديها الموارد الكافية للتخلص من بيروقراطية الدولة من المدينة بالكامل. في البداية لم يتمكن المجلس الثوري من توفير القمح بسعر زهيد، أو من تسديد رواتب وأجور عمال المطاحن والموظفين العموميين الآخرين، واضطر لقبول مساعدة النظام وتواجده غير المباشر في المدينة، ما ترتّب عليه عواقب خطيرة. لكن المجلس الثوري في المدينة كان يعرف أنه لن يتمكن من الاستمرار في الاعتماد على شبكة النظام، وأنه سيحتاج إلى تهيئة حلول بديلة. من ثمّ بدأ بالتفاوض مع المدن القريبة –مثل عفرين والرقة– على بناء شبكات تضامن ثوري فيما يخص الخبز. كان الهدف منها هو توزيع القمح بالتساوي بين المدن المشاركة في الشبكة، ومساعدة المناطق التي تعاني من النقص.
لم ينجح عمل دورة القمح الجديدة طوال الوقت، لأنّه كان على المجالس الثورية في المناطق المحررة –وتشمل منبج– الحفاظ على توازن دقيق بين المطالب المحلية والاستراتيجية الإقليمية صعبة التحقق. على سبيل المثال، رفض مجلس الرقة الثوري تسليف منبج معداته الباهظة لإصلاح انقطاع الكهرباء، وذلك رغم العلاقات الطيبة بين المدينتين، إذا أن مجلس الرقة كان يخشى أن تسرق مجموعةٌ فاسدة من الجيش السوري الحر المعداتَ لدى عبورها حاجزٍ أمني على الطريق بين المدينتين. ردّ مجلس منبج الثوري بالتهديد بقطع المياه عن ريف الرقة الغربي ووقف إمداده بالخبز. فرض هذا ضغوطًا على المدينة التي قبلت في النهاية تسليفَ المعدات لمنبج.[11]
يظهر للعيان ضمن هذه الظروف مدى صعوبة نجاح تلك المساعي، فقد جعلت ندرةُ الموارد وتواجدُ مجموعات عسكرية بأجندات مختلفةٍ التعاونَ بين مختلف المجالس الثورية عملية معقدة للغاية.
انطوت عمليّة استبدال شبكات الدولة البيروقراطية بشبكات ديمقراطية على تحديات جمّة. لم ترقَ السياسة الثورية بالمدن المحررة بسهولة إلى المستوى الإقليمي. تصرّفت مدن عديدة في المنطقة وكأنها دولة مدينة أثناء تلك الفترة. فرغم سياسة الودّ والأيديولوجيات المشتركة، كانت بعض المدن غير قابلة لمشاركة مواردها الحيوية (وتشمل القمح). فبدلًا من مشاركتها الفوائض مع مدن أخرى كانت بأمسّ الحاجة إليها قامت بتخزينها خوفًا من نقص الغذاء الذي يسبّبه حصار النظام. وأدركت منبج مثلما أدركت المدن المحررة أن التخلص من آثار عقود من بيروقراطية الأسد وتهيئة نظام بديل عملية صعبة وشاقة للغاية.
مثّلت القوّة العاملة إحدى التحديات الرئيسة التي واجهتها القوات الثورية في منبج فيما يتّعلق بمطحنة المدينة. إذ استمر مدير المطحنةً ومعه نحو 100 موظف آخرين بتلقي رواتبهم من النظام بعد تحرير المدينة في يوليو/تموز 2012، كجزء من استراتيجية النظام للحفاظ على السيطرة على المؤسسات الحيوية في المدينة. في عام 2013، هدّد المدير والموظفون بالمغادرة، وذلك بسبب تكرّر التدخلات من قبل عدة أشخاص نافذين في المدينة. لتفادي عواقب هذا القرار جهّز المجلس الثوري فريقًا من المتطوعين ليتابعوا عمل فنيّي ومهندسي المطحنة، ليكتسبوا المهارات اللازمة لتشغيل المطحنة بصورة مستقلّة. وبهذه الطريقة، سعى المجلس الثوري إلى تعزيز استقلال المدينة.
والتحدي الآخر –الأكثر عنفًا– الذي واجهته منبج إبان تلك الفترة كان الاستهداف المتعمد لطوابير الخبز أمام المخابز، كما أوضحنا في مطلع المقال. في أغسطس/آب 2012، بدأ نظام الأسد حملة غارات جوية استهدفت المخابز في المدن المحرّرة. كانت مخابز منبج أهدافًا سهلة لقلّتها ولمواقعها المعروفة. وردًا على تلك الهجمات الدامية وبعد مشاورات مع عدة أطراف بالمدينة، قرر المجلس الثوري توزيع الخبز في مختلف الأحياء، وذلك لتجنب التجمعات أمام الأفران. استعان المجلس بعدد كبير من الشباب الباحثين عن عمل ووزّعهم على أحياء عدّة لتوزيع الخبز. ولتجنب بيع الخبز في السوق السوداء بأسعار باهظة، نفّذ المجلس عملية إحصاء لتسهيل توزيع الخبز، جُمعَت بموجبها بيانات هائلة عن أعداد العائلات في كل حي واحتياجات كل أسرة. ثم قام المجلس بترشيد الخبز بناءً على تلك البيانات. سمح هذا النموذج للمجلس بخلخلة مركزية توزيع الخبز ومن ثم بإنهاء فترات الانتظار المطولة أمام المخابز. لكن من مشكلات عملية الإحصاء المذكورة أن الوافدين الجدد من اللاجئين لم يكونوا ضمن التعداد، فلم يتمكّنوا من شراء الخبز المدعوم. نتيجة لهذا اضطروا إلى شراء الخبز من السوق السوداء بضعف أو ثلاثة أضعاف سعر الخبز المدعوم. تُظهر العملية هذه الصعوبات التي واجهت إنشاء الشبكات الجديدة في المناطق المحررة.
كما يظهر من المناقشة أعلاه، كانت المخابز والمطاحن مؤسسات ضرورية وحيوية في نظام الأسد، وحافظت على أهميتها في المناطق المحررة بعد 2011، إذ يُعدّ الخبز غذاءً أساسيًا للسوريين، ويعتمد الكثيرون منهم عليه للبقاء على قيد الحياة. ومع تحرير منبج، اعتبر المجلس الثوري إنتاج وتوزيع الخبز أولوية أساسية. الحق أن الخبز والحرية يُمثّلان كُلًّا واحدًا؛ فلا معنى لتحرير المدينة في نظر كثيرٍ من السكان إذا كانت الظروف الحياتية ستتدهور نتيجةَ تحريرها. كان المجلس الثوري يعي تمامًا أن نجاحه يعتمد على قدرته على توفير الخبز بنفس السعر المتوفّر في المناطق التي يسيطر عليها النظام. بالمثل، فَهمَ النّظام أن الثورة ستفشل إذا لم تتمكن من تقديم الخبز الرخيص للسكان الذين يعيشون في المناطق المحررة. وفي هذا السياق، جهّز المجلس الثوري لجنة خاصة لفحص مختلف السيناريوهات ولاقتراح استراتيجيات توفّر الخبز بسعر زهيد. وكما أوضحنا أعلاه، تمكّن المجلس –بتعداده السكانَ لغاية توزيع الخبز– من حل مشكلة الخبز المباع في السوق السوداء إلى حدٍّ بعيد، لكنه واجه مشكلات أعقد متّصلة بتوفير الخبز. من المشكلات كانَ تواجد أعداد كبيرة من الكتائب العسكرية (بما يشمل تلك المكونة من عائلات وعشائر نافذة)، وكانت تستهلك الخبز من الإمدادات المخصصة للمدينة، من دون أن تكون جميعها تقاتل النظام في حقيقة الأمر. من المفهوم أن سكان منبج انتقدوا الفصائل التي أخذت الخبز ولم تقاتل، ووصفوها بـ «كتائب الخبز»، لكن لم يكن للقوى الثورية التي كانت تقاتل النظام الوقتَ أو المواردَ لفتح جبهة جديدة داخل المدينة لطرد «كتائب الخبز» هذه التابعة للثورة المضادة.
مشكلة أخرى واجهت المجلس الثوري في منبج كانت الحاجة إلى منع أية فصائل عسكرية نافذة ناشطة في المدينة من السيطرة على المطاحن واحتكار توزيع الخبز. كانت حراسة المطاحن عملية صعبة لأنّها تقع على مشارف المدينة وهي معرّضة لخطر الهجمات. على سبيل المثال، سيطرت جماعة أحرار الشام الجهادية القوية على المطاحن في عام 2013، بذريعة أن إدارتها فاسدة وتفتقر إلى الشفافية المالية. كان قائد أحرار الشام يأمل في اكتساب ولاء السكان عند تقديمِه الخبزَ لهم بسعر زهيد. لكن خطته فشلت؛ إذ عارضت المدينة بالكامل التدخل العسكري في الشؤون المدنية، ولم يوافق السكان على الاستيلاء على المطاحن. نحّى المجلس الثوري وعدة مجموعات نافذة في المدينة خلافاتهم جانبًا ونظّموا مظاهرات ضد أحرار الشام، ما اضطرها إلى ترك المطاحن.