الخصخصة وصندوق النقد الدولي
تحققت خصخصة قطاع الطَّاقة الأردنيّ ضمن سياسة عامّة وضعها صندوق النقد والبنك الدوليين للأردنّ، بعد اقتراض مشروط اضطُرت إليه البلاد لتغطية عجز الموازنة العامة، بعد تقلُّص الدَّعم الخليجي في الثمانينيات وارتفاع مستويات الإنفاق العام، وما أفضى إليه مِن تراجع نسب النموّ والمنتهيةً بأزمة اقتصاديّة حادة وانهيار سعر الصرف عام 1989، جعل البرامج الإقراضيّة التصحيحيّة الملجأ الوحيد لتفادي تفاقم الأزمة. ارتكزت سياسات (إجماع واشنطن) التي تبناها صندوق النقد والبنك الدوليين كوصفة علاجيّة للبلدان الفاشلة حسب رؤيتها (والتي كان مِن ضمنها الأردنّ)، على ضبط الإنفاق العام، وتحرير السوق والتجارة الخارجيّة، وخصخصة مرافق الدولة تذرُعًا بضعف الآداء الحكومي وما أنتجه من أعباء اقتصاديّة.9
تمأسست عملية الخصخصة في الأردن عام 1996 بإنشاء "الوحدة التنفيذيّة للتخاصية"10 في رئاسة الوزراء، وبالتعاون مع البنك الدوليّ،11 كخطوة أولى لترشيح المرافق والمؤسسات الحكوميّة المؤهلة للخصخصة، ووضع دراسات التقييم والإجراءات اللازمة. في العام ذاته تمّ التنسيب بتحويل سلطة الكهرباء الوطنية الأردنية المؤسسة عام 1967 12– والتي كانت تمتلك وتدير جميع أنشطة القطاع – إلى شركة مساهمةٍ عامّة مملوكة للحكومة، سُمّيت شركة الكهرباء الوطنيّة المساهمة العامّة، ما أعاد هيكلة الشركة عام 1999 بتقسيمها لثلاث شركات حسب النشاط: شركة الكهرباء الوطنيّة المسؤولة عن شراء الطَّاقة الأوليّة ونشاطات النقل والتحكّم والربط، وشركة توليد الكهرباء المركزية المسؤولة عن محطات توليد الطَّاقة الكهربائية، وشركة توزيع الكهرباء المسؤولة عن توزيع الطَّاقة الكهربائيَّة، عملت جميعها بشكل مستقلٍّ إداريًّا وماليًّا. وتبع ذلك إنشاء هيئة تنظيم قطاع الطَّاقة والمعادن (هيئة تنظيم قطاع الكهرباء سابقًا) عام 2001 ككيانٍ مستقلّ ومنظّم للعلاقة بين أنشطة القطاع.14
كانت إعادة الهيكلة التي أخضع لها قطاع الطَّاقة الأردنيّ تمهيدًا لخصخصة أنشطة التوزيع والتوليد، والتي جعلت الشركات والمستثمرين لاعبين أساسيين في قطاع الطَّاقة بدلاً عن القطاع العام، باعتبار ذلك حلاً لمشاكل القطاع. وفي الوقت الذي أشارت فيه المعطيات إلى كفاءة عالية في أداء سلطة الكهرباء الوطنية، تبنَّت الدولة – بإصرار – الرؤية النيوليبرالية التي رسمها الصندوق، عبر التخطيط للخصخصة وإدخالها حيّز التنفيذ في عام 2007 ببيع 51% مِن أسهم شركة التوليد المركزيّة لشركة دبي كابيتال الإماراتيّة،15 وفي العام ذاته؛ تمَّ بيع 100% مِن أسهم شركة توزيع الكهرباء المساهمة العامّة و51% مِن أسهم كهرباء إربد لصالح شركة كهرباء المملكة لاستثمارات الطَّاقة، المملوكة – أيضًا – لشركة دبي كابيتال الإماراتية مع شركة التخصيص القابضة الكويتية وشركة المستثمرون العرب المتحدون.16 وهكذا؛ أُحيلت المشاريع التوليديّة اللاحقة بطريقة العروض المباشرة أو العطاءات التنافسيّة للقطاع الخاص، ما حصر نشاط التوزيع في ملكية القطاع الخاص، ونشاط التوليد مزيجًا مِن العام والخاص مع رجوح كبير في كفة الأخير، وظلَّ نشاط النقل وشراء الوقود مملوكًا لشركة الكهرباء الوطنيّة ممثل الحكومة في القطاع. ونظمت الهيئة المستقلّة لتنظيم قطاع الطَّاقة والمعادن جميع تلك الأنشطة.
ظهرت وتفاقمت مشاكل القطاع الهيكلية بعد إتمام عملية الخصخصة، فبعد أنْ كانت سلطة حكومية واحدة ينظِّمها القانون تدير قطاع الكهرباء، تحوّل القطاع إلى شركات ضعيفة الترابط متضخمة بتكاليف إدارية لا حاجة لها؛ ما أثخن الأداء العام للقطاع. وتكشف تفاصيل العقود والاتفاقيات مع تلك الشركات الخاصّة أثرًا أكثر خطورة وأهمية، إذ أبرمت الحكومة تعاقدات طويلة الأمد مع شركات التوليد والتوزيع الخاصّة، عملت كغطاء حماية للشركات مِن أيّة أخطار في قطاع الطَّاقة، باعتماد منهجية (علاوة التكاليف) التي تضمن نسبة ربح ثابتة، دون اعتبار لضمان الآداء والكفاءة مقابل ذلك. وفي حالة شركات التوليد، تضمَّنت التعاقدات إلزام الدولة بتكاليف القدرات التوليدية للشركات، حتى لو لم تكن الدولة بحاجة لها.
أكد تقرير لجنة التخاصية17 الصادر في عام 2014، والذي أجرى مراجعة حكومية لتجربة الخصخصة في الأردن، على تبعات وأعباء خصخصة قطاع الطَّاقة الأردني، حين أفاد أنَّ التجربة لم تُحقق جدواها في قطاع الطَّاقة، ومشيرًا إلى تراجع مؤشرات أنشطة القطاع مِن جهة، كارتفاع نسب الفاقد الكهربائي في شركات التوزيع المُخصخصة، وتزايد الأعباء الماليّة من جهة أخرى؛ ما عمّق وعقّد أزمة الطَّاقة. وبحسب التقرير فإنَّ:
"مراجعة تجربة بيع الحكومة جزءًا من ملكيّاتها في إنتاج وتوليد وتوزيع الكهرباء لا تُظهر أنَّ هذه العمليّات حقّقت الأهداف الاقتصادية المرجّوة منها، سواءً كانت بتعظيم الاستثمار الاستراتيجي، أو بحماية الخزينة مِن تبعات زيادة كلفة الوقود، أو بزيادة كفاءة القطاع، أو تنويع مصادر الطَّاقة".
وأضاف التقرير أنَّ تلك الشركات تحقّق أرباحًا غالبها مرتبط بالتّحديد المسبق للأسعار مِن قِبل هيئة تنظيم قطاع الكهرباء، وليس بزيادة الكفاءة أو الإنتاجية، وبعائدٍ سنويّ بلغ في المتوسّط 20%. وقد تبيَّن أنَّ هذه النسبة مرتفعةً لشركات لا تتحمّل أخطار استثمارية كبيرة، كون مبيعاتها وأرباحها مضمونة. وبرّرت الحكومة ذاك التقصير بأنَّ الخصخصة كانت بالشراكة مع مستثمرين ماليين غير مختصّين في قطاع الطَّاقة، تمركزت أهدافهم حول تحقيق الربحيّة عوضًا عن وضع خطط إنمائيّة تعزّز من إنتاجيّة القطاع، وعللت اضطرار الحكومة في بعض الأحيان إلى اللجوء إليهم بعد عزوف المستثمرين الاستراتيجيين عن المشاركة.18
يتمحور الشقُّ الآخر من خطط البنك الدولي وصندوق النقد (بعد إعادة هيكلة القطاع) حول أسعار الكهرباء ورفع الدعم عن المستهلكين. فبعد أزمة انقطاع الغاز المصريّ في عام 2011، وأمام الاقتراض الاضطراري للحكومة لتغطية نفقات الشركة الوطنية، عادت تلك المؤسسات – المانح الأكبر لقروض الشركة – لوضع خطط إصلاحيّة لقطاع الطَّاقة تمركزت حول تنويع خليط الطَّاقة، وتعديل التعرفة الكهربائيّة (أيّ إلغاء دعم المحروقات والكهرباء)، مظنة تقديمها ذلك كحلٍّ جوهريّ لمديونيّة الشركة الوطنيّة. في عام 2012 وافق صندوق النقد على إقراض مشروط للأردن تقارب قيمته 2.06 مليار دولار،19 متبوعًا في السنوات اللاحقة بقروضٍ ومنحٍ أخرى، تمخَّض عنها برنامجٌ كبيرٌ لإصلاح الدعم بمساندةٍ مِن الصندوق، ألغى الدعم عن مشتقّات النفط لتشهد ارتفاعًا بين 14% و 50%،21 مع وضع خطَّة خمسيّة تبدأ من 2013 لرفع التعرفة الكهربائيّة على خمس مراحل.22 وطُبّقت تلك الخطَّة بشكل جزئيّ تزامن مع رفع سعر الكهرباء ثلاث مرات بين 2013 و 2015، حتى توقّفت مع انخفاض كبير لخسائر الشركة الوطنيّة، نظرًا لتدنّي تكاليف الإنتاج، إثر استقرار أسعار النفط وعودة توريد الغاز. إلا أنَّ ذلك التوّقف بات هشًّا ومهدَّدًا بالمزيد مِن خسائر الشركة الوطنيّة في السنوات الأخيرة حسب التوقعات، ما يدفع بالعودة إلى خطط صندوق النقد للواجهة، وضغوط إضافيّة نحو رفع الدّعم، وهو ما تتطور لاحقًا لإدخال الخصخصة مجددًا في القطاع.
تصرّ تقارير البنك الدوليّ على أنَّ سياسات صندوق النقد المُخطَّط لها في قطاع الطَّاقة ستحقّق وفوراتٍ ماليّة، تتيح المجال للاستثمار في برامج تستهدف الطبقات الفقيرة، وتتجاوزها لتصبح أنشطةً اقتصاديّةً شاملةً تسهم في تحسين المستوى المعيشيّ في الأردن، غير أنَّ الوقائع القريبة والأرقام لا تتوافق مع ادعاءات تصحيح المسار الاقتصاديّ المرتبط برفع الدعم والمروج لها؛ إذ تواترت التراجعات في نسب النمو الاقتصاديّ23 خلال السنوات الماضية،24 وتآكلت الطبقة الوسطى، وارتفعت معدّلات الفقر مع تدني القدرة الشرائيّة،25 ما يرفع سقف التخوّفات مِن تبِعات رفع أسعار الكهرباء مجددًا على الشرائح المتوسطة والصغرى، حال إلغاء الدعم كاملاُ أو بشكل جزئي عن الكهرباء.
الخيار الأقلّ تكلفة أولًا
أثارت أزمة انقطاع الغاز المصريّ تساؤلاً حول ماهية الخطط الحكومية لتفادي الكارثة؟ وفي الإجابة عن ذلك غاب عن الحكومة حتمية مراجعة سياساتها في أمن الطَّاقة لإعادة تصويب المشهد، بل واكتفت بحصر مشاكلها بتفسير مُكرَّر منذ أكثر مِن عشرين عامًا، يتعلق بمحدودية المصادر الأحفوريّة المحلِّيَة، التي دفعت بالأردن لاستيراد أكثر من 90% من احتياجاته من الطَّاقة الأوليّة، يذهب ما يقارب 40% منها لإنتاج الكهرباء،26 ما جعل فاتورة الطَّاقة المحلِّيَة عبئًا باهظ الثمن، تتحكّم بقيمته الأوضاع الإقليميّة والمزاج السياسيّ العالميّ، إنْ كان ذلك بارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعيّ أو انخفاضها، أو بالارتهانات السياسيّة التي لعبت دورًا مباشرًا في أزمة الطَّاقة الأردنيّة.
عمد الطرح الحكومي إلى تبسيط أسباب الأزمة، والقفز على تقييم جودة الأداء الحكومي في تنظيم القطاع، والذي يتمحور هدفه في ضمان تشغيل آمن واقتصاديّ أمثل للنظام الكهربائي، وبما يضمن استمراريّة عمله بأقلّ كُلفة ممكنة، في ظلِّ المصادر المتاحة. وعليه؛ فإنَّ مُهمَّة التخطيط والتنظيم لخليط توليديّ، يلبّي الطلب الحالي والمستقبلي للطاقة بما يخدم النمو الاقتصاديّ، مرهونٌة بركيزتين أساسيّتين هما: ضمان أمن الطَّاقة المحلّي، والضبط الأمثل لتكاليف التوليد. ولذلك، تسبب اختلال الموازنة بين هذين العاملين في وقوع أزمات في قطاع الطَّاقة، وهو ما نبّهت إليه استراتيجيّة الطَّاقة الأردنيّة (2007 – 2020)، التي وُضِعت كخارطة طريق للقطاع، لتخفيف حدّة المخاطر في قطاع الطَّاقة الأردنيّ، وذلك بزيادة الاعتماد على المصادر المحلِّيَة وتنويع خليط الغاز وتبنّي سياسات الترشيد. لم يكن انقطاع الغاز المصري أولى أزمات القطاع؛ إذ شهد القطاع حدثًا مماثلاً – وإنْ كان أقلّ حدّة – بانقطاع النفط العراقيّ عام 2003 بعد الغزو الأمريكيّ، والذي كان بشكل مماثل للنموذج المصريّ، مصدرًا زهيد الثمن لكنَّ غير آمن، اعتُمِد عليه بشكل كبير في التوليد، وأدّى لقفزات سعريّة في أسعار الطَّاقة بعد انقطاعه، إلا أنَّه لم يفلح في تغيّر نهج القطاع بأي شكل.
ففي نفس عام انقطاع النفط العراقيّ (2003)، تمَّ توقيع اتفاقيّة الغاز الأردنية المصريّة لتزويد الأردنِّ بالغاز الطبيعيّ 15 عامًا بكميّات مُكثفة لأجل توليد الطَّاقة الكهربائيّة، وغطّت 80% من احتياجاته27 وبسعر مناسب مقارنة بالارتفاع المحموم والمتصاعد في تكاليف الطَّاقة وأسعار النفط العالميّة. انعكس ذلك بشكل إيجابيّ على أسعار الطَّاقة والاقتصاد، غير أنَّ بوادر الأزمة كانت قد بدأت بالظهور عام 2008، عندما انخفض وتقلب إمداد الغاز عن مستوى الطلب، حتى وصل في عام 2010 إلى 60-70% فقط من الكميّات المُتّفق عليها مع الجانب المصري،28 مما أظهر أنَّ الغاز المصري ليس موثوقًا كمصدر طاقة طويل الأمد. ومع ذلك، وعلى الرغم مِن التحذيرات المتكررة، لم تطبق الحكومة استراتيجية الطَّاقة التي تنص بوضوح على ضرورة إيجاد مصادر جديدة للغاز، وظل القطاع يعتمد على الغاز المصري كمصدر رئيسي يغطي معظم احتياجاته التوليدية، تحت شعار: أولوية الخيار الأرخص، حتى حدثت أزمة التفجيرات، وانخفضت نسبة الغاز الطبيعي في خليط الطَّاقة إلى 8% فقط في عام 2014. 29
واضطرت الأردن إلى استيراد النفط ومشتقاته بأسعار قياسيّة كبديل مقترح لتوقف الغاز المصري، مما زاد بشكل هائل تكاليف الطَّاقة من 9.6 سنتًا أمريكيًا لكل كيلووات/ساعة في 2010 إلى 22.5 سنتًا أمريكيًا لكل كيلووات/ساعة في 2014، 30 بزيادة هائلة بنسبة 129%. ولم يتحسن وضع قطاع الطَّاقة الأردنيّ إلا في عام 2015، عندما استأنفت الأردن استيراد الغاز ضمن اتفاقات جديدة مع قطر بشكل أساسيّ،31 وبدأت استخدام باخرة عائمة للغاز الطبيعي المسال في ميناء الشيخ جابر الصباح النفطي في العقبة على البحر الأحمر، والتي اتفقت على استئجارها ضمن اتفاق مع شركة غولار المُتَّحدة.32 وقد رافق تلك التطوّرات انخفاض أسعار النفط عالميّا، مما خفض تكاليف إنتاج الطَّاقة إلى 10.3 سنتًا من الدولار لكل كيلووات/ساعة عام 2016.